انتفاضة الأقصى الثانية!
أسامة العرب
منذ أن شعرت دولة الاحتلال بتخلّي عدد كبير من الدول العربية والإسلامية عن القضية الفلسطينية والمقدسات الإسلامية، تسارعت وتيرتها في تهويد المسجد الأقصى، ولإقامة المعابد حوله كالمعبد الذي أنشأته سابقاً عند حائط البراق، بعدما أطلقت عليه حائط «المبكى».
وخلال السنوات القليلة الماضية، أيقنت دولة الاحتلال أنها استولت على الحرم الإبراهيمي في الخليل، وحوّلته من مسجد إسلامي إلى كنيس يهودي كبير ومسجد صغير، لا سيما بعدما وضعت على مداخله بوابات إلكترونية، وفرضت قيوداً مشدّدة على دخول المصلين إليه، فيما شدّت رحال المتطرفين اليهود إليه بهدف إحكام السيطرة عليه بالكامل.
ومن فترة وجيزة، أقامت «إسرائيل» كنيساً يهودياً ضخماً أسفل المسجد الأقصى، وحظرت رفع الأذان فيه وفي الحرم الإبراهيمي وفي جميع المساجد في المدينة، وفرضت على جميع رؤساء الدول الأجانب القادمين إليها وجوب زيارة حائط «المبكى» لتكريس حقوقها المزعومة في ما أسمته «جبل الهيكل»، ومن ثم شَرَعَت في تطبيق تقسيم زماني للأقصى بين الفلسطينيين والمحتلّين «الإسرائيليين» في غير أوقات الصلاة كمرحلة أولية، يتبعه تقسيم مكاني عبر اقتطاع مساحات تصبح كنيساً توراتياً كبيراً داخل الأقصى.
وفي تصعيد خطير لم يشهد له الأقصى مثيلاً منذ حريق عام 1969، أصدر رئيس الوزراء «الإسرائيلي» «نتن- ياهو» يوم الجمعة الوقع في 14 تموز 2017 قراراً بإغلاق المسجد الأقصى بالكامل، وحظر إقامة الصلاة فيه، وفرض طوقاً أمنياً مشدّداً حوله، وإغلاق كلّ أبوابه وكلّ شوارع المدينة القديمة المؤدّية إليه.
كما أنّ دولة الاحتلال شدّدت من أعمال الحفر الجارية أسفل الأقصى، وزعزعت كيانات المسجد بالكامل تقريباً، لا سيما بعدما استخدمت مواد كيميائية لتذويب أسسه ودفعه للانهيار، وهي تسعى اليوم لتسريع وتيرة هذه العملية. وهذا السيناريو يذكّرنا بسيناريو 21 آب 1969 عندما سعت دولة الاحتلال للتخلص من المسجد الأقصى عبر اقتحامه وإضرام النار فيه، إلا أنّ شبان المدينة حينها هبّوا ببسالة شديدة للدفاع عن مقدساتهم، وأطفأوا النيران المشتعلة بالأقصى قبل أن تتمكّن منه. كما كان من المؤسف حينها أنّ عدداً من الدول الانهزامية رفضت توجيه أصابع الاتهام لدولة الاحتلال، كما رفضت قطع علاقتها السرية معها، وتبنّت الرواية الخرافية التي ابتدعتها دولة الاحتلال للتهرّب من المسؤولية، والتي مفادها أنّ شخصاً مجهولاً اسمه مايكل روهان، قد جاء خصيصاً من استرالياً إلى القدس بهدف إحراق الأقصى، وأنه تمّ إلقاء القبض عليه، وترحيله إلى الخارج لكونه فاقداً للأهلية.
والحقيقة أنّ تخاذل البعض من الدول العربية والإسلامية ساهم بشكل أو بآخر بتشجيع «إسرائيل» على المضيّ قدماً بجرائمها بحق الأقصى، فبتاريخ 31 آب عام 1981، اقتحم أفراد حركة أمناء جبل الهيكل وجماعات أخرى الأقصى ورفعوا علم الاحتلال الإسرائيلي فوقه، كما اقتحم رئيس حركة أمناء جبل الهيكل غوشون سلمون، ساحة الأقصى قبل شهور من إطلاق جندي يدعى هاري غولدمان، النار فيه بشكل عشوائي، مما أدّى لاستشهاد العديد من الفلسطينيَين وجرح أكثر من 60 آخرين. وفي 8 تشرين الأول 1990 قامت «إسرائيل» بارتكاب مذبحة في الأقصى ذهب ضحيتها 23 فلسطينياً. وفي 27 أيلول 1996 قامت «إسرائيل» باقتحام باحات الأقصى بعد فتح نفق تحته وقتلت ثلاثة من المصلين وجرحت أكثر من مئة فلسطيني. وفي عام 2000، تجدّدت الانتهاكات، حيث اقتحم زعيم حزب الليكود المتطرف، ورئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، المسجد الأقصى، وسط حماية عسكرية مشدّدة، وقتل العديد من المصلين بدم بارد، مما أدّى إلى اندلاع انتفاضة الأقصى. وفي عام 2007، اقتحمت قوات الاحتلال ساحة الحرم القدسي، واصطدمت مع الآلاف من المصلين الفلسطينيين، واعتدت عليهم. وفي بداية عام 2012 قامت دولة الاحتلال في ليلة رأس السنة الميلادية باقتحام المسجد عن طريق مجموعات من جيش الاحتلال، واعتدت على المصلّين فيه. وقد زادت وتيرة الانتكاسات بشكل كبير في عام 2014، حيث تعرّض المسجد إلى أكثر من 450 اقتحاماً من قبل المستوطنين والجماعات اليهودية، ترافقهم فرق من الجيش «الإسرائيلي» بزيّها العسكري، ومخابرات الاحتلال، كما تمّ الإعلان عن إضافة 100 حفرية في محيط الأقصى، تمهيداً لهدمه وبناء هيكلهم المزعوم على أنقاضه. وفي عام 2015 قاد وزير الزراعة «الإسرائيلي» أوري آرائيل، مجموعة من المستوطنين «الإسرائيليين» لاقتحام المسجد الأقصى، فيما اعتدت قوات الاحتلال الخاصة على حراس المسجد والمصلّين بالضرب وطردتهم خارجه بسبب تصديهم لتلك الاقتحامات.
وقد صدق أستاذي الرئيس الدكتور سليم الحص عندما قال بأنّ العدو الصهيوني الذي ارتعد يوماً خوفاً من غضب العرب والمسلمين من جراء إحراق المسجد الأقصى عام 1969 اكتشف في صبيحة اليوم التالي بأنّهم أمة نائمة متخاذلة. وصدق أيضاً عندما قال بأنّ الإدانة الأولى تبقى موجّهة الى أولئك البعض من زعماء وقادة ومنظمات العالمين العربي والإسلامي الذين ما فتئوا من افتعال الفتن المذهبية خدمة لأعداء الأمة.
والمضحك المبكي، أنّ عدداً من الدول العربية والإسلامية الصديقة لـ«إسرائيل»، توسّلت نتن – ياهو مؤخراً لكي يتراجع عن قراره بإغلاق المسجد الأقصى ويسمح على الأقلّ بإقامة صلاة الجمعة فيه، إلا أنّ «الصديق النتن – ياهو» رفض الاستجابة لنحيبهم وعويلهم، وأصرّ على المضيّ قدماً بإغلاق المسجد للجمعة الثانية على التوالي. والمفارقة هنا أنّ دولة الاحتلال التي لم تخشَ إحراج أو إهانة أكثرية الحكام العرب والمسلمين، تأهّبت بأكملها خوفاً من غضب المصلين العزل وفرضت تدابير أمنية تحسّباً لاندلاع المواجهات في «جمعة الغضب»، وشدّدت إحكام الطوق الأمني المقام على مداخل الأقصى، لكي لا ترفع فيه أيّ صلاة. كما ألغى جيش الاحتلال جميع عطلات نهاية الأسبوع في الوحدات القتالية، ودفع بخمسة ألوية لتعزيز وجوده في نقاط التماس، وعلى الحواجز العسكرية. فيما أعلنت شرطة الاحتلال تعزيز قواتها في القدس بآلاف من أفرادها.
خلاصة القول، قبل 15 عاماً، تجوّل شارون آنذاك في ساحات الأقصى، وقال إنّ الحرم القدسي سيبقى منطقة إسرائيلية، مما أثار استفزاز الفلسطينيين، فاندلعت المواجهات بين المصلّين والجنود «الإسرائيليين»، وامتدّت إلى المدن كافة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت الشرارة التي انطلقت منها «انتفاضة الأقصى». وكان الطفل الفلسطيني الشهيد محمد الدرة 11 عاماً الرمز الأكبر لتلك الانتفاضة، حيث تعمّد العدو اغتياله بدم بارد وبدون سبب وهو يحتمي بأبيه بالقرب من برميل إسمنتي في شارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة.
وأخيراً، بالوقت الذي لم تعُد «إسرائيل» تحسب أيّ حساب لأكثرية الدول العربية والإسلامية، ترتعد خوفاً من الشعب الفلسطيني الأعزل ومن نشوب انتفاضة أقصى ثانية، تسفر كما السابقة عن قتل أكثر من 1069 إسرائيلياً وجرح 4500 آخرين. ولذلك، لـ«نتن-ياهو» نقول: أيها الإرهابي إنْ كنت تعتقد بأنّ العرب يعوّلون على حكامهم ليحموا المقدّسات وليدافعوا عن الحقّ والأرض فأنت واهم، وإنْ كنت تعتقد بأنّ صداقتك مع البعض من الدول العربية والإسلامية ستجيز لك المسّ بالمقدسات، فأنت واهم بامتياز. نحن شعبٌ عاشق للشهادة، عاشق للمقاومة، عاشق لدحر الإرهابيين أمثالك وأمثال أسلافك. بدمائنا ودماء أبنائنا نرسم وسنرسم طريق العزة والشرف، طريق الكرامة والعنفوان. ونحمل وسنحمل مع الأجيال المقبلة شعلة الحرية، وسنقاوم ونقاوم ونقاوم… حتى نحقق النصر المبين!
محام، نائب رئيس الصندوق الوطني للمهجّرين سابقاً