أسباب انتفاضة القدس ومآلاتها المستقبلية
د. ناصر الكفارنة
إنّ ما جرى ويجري منذ عملية القدس البطولية للجبّارين الثلاثة، أبناء أمّ الفحم سواء في القدس أو في كلّ أرجاء فلسطين المحتلة وخارجها، هو تواصل واستمرار لعملية المواجهة المستمرة مع الاحتلال «الإسرائيلي» منذ ما يزيد على مئة عام بعد إصدار وعد بلفور المشؤوم في العام 1917، وموجة جديدة من موجات الانتفاضة المتجدّدة منذ الانتفاضة الأولى في كانون الأول/ ديسمبر من عام 1987 وهي مواجهة مفتوحة مع المحتلّ الذي اغتصب الأرض الفلسطينية بمساندة مباشرة من الإمبريالية العالمية وبتواطؤ أو تقاعس من المجتمع الدولي في العام 1948.
إنّ المعركة المفتوحة مع الكيان الغاصب ليست معركة على بوابات إلكترونية أو حاجز هنا أو هناك أو غيرها من القضايا الجزئية، بل هي معركة على السيادة على هذه الأرض، ما تحتها وما فوقها. وهي نتيجة طبيعية لجرائم الاحتلال التي تدفع الشبان في مقتبل العمر لتنفيذ عمليات استشهادية مثل عملية القدس أو مستوطنة حلميش قرب رام الله. هذه الجرائم ابتداء من جريمة الاحتلال والاستيطان وجرائم متنوّعة يومياً مثل جريمة إغلاق الأقصى وجرائم القتل اليومية. فلذلك على الكلّ الوطني الفلسطيني أن يدرك أنّ الصراع مع الاحتلال الصهيوني وحلفائه لم ينتهِ ولن ينهيه التوقيع على اتفاقيات سياسية تصفوية أو تهدئة مع الاحتلال.
وكلّ هذه الاتفاقيات والتفاهمات مؤقتة وأما المستمرّ والثابت فهو الصراع والكفاح بكلّ أشكاله وعلى رأسها المقاومة المسلحة مع هذا الغاصب المحتلّ حتى طرده من فلسطين وتحقيق السيادة الكاملة على طريق بناء دولة العدل والمساواة والديمقراطية على كامل الأرض الفلسطينية أو ما نسمّيه فلسطين التاريخية، يعيش فيها جميع المواطنين بمساواة كاملة من دون تمييز سواء على أساس الجنس أو الدين أو العرق أو أيّ شكل من أشكال العنصرية وبحرية تامة متمتعاً بكامل الحقوق التي كفلتها المواثيق والأعراف الدولية وعلى رأسها إعلان حقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكلّ المواثيق الدولية والإقليمية المتعلقة بهذا الشأن.
إنّ تجدّد واستمرار المواجهة في هذه الأيام ابتداءً من القدس ومروراً بالضفة الفلسطينية وقطاع غزة المحاصر. هو امتداد طبيعي للصراع التاريخي المتجدّد على أرض فلسطين منذ أكثر من مئة عام، ومَن يعتقد أو يفكر بغير ذلك، فهو إما واهم أو متخاذل أو متواطئ ومتعاون مع الاحتلال وأسياده في الامبريالية العالمية وعلى رأسهم امبراطورية الشرّ في الولايات المتحدة الأميركية.
لكلّ ذلك ونتيجة قراءتنا الدقيقة لكلّ ما يجري في المنطقة والعالم يحتم على الفلسطينيين أن يتفقوا على استراتيجية سياسية وطنية واحدة موحّدة من أجل مواجهة هذا الاحتلال الغاصب وكلّ المخططات والمؤامرات الهادفة الى تصفية قضيتنا الفلسطينية والتي حيكت وتحاك في دوائر الاستخبارات الدولية والإقليمية في ظلّ حالة الانقسام والتشرذم التي يعيشها الفلسطينيون وفي ظلّ قيود اتفاقيات أوسلو وإفرازاتها المشؤومة.
انّ هذه الاستراتيجية لكي تتحقق وتتكلل بالنجاح يجب أن يسبقها إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة على مختلف المستويات والاتفاق على التحرّر من اتفاقيات أوسلو وإفرازاتها وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أساس الشراكة الحقيقية في القرار والمصير، وعلى قاعدة مشاركة جميع مكونات المجتمع الفلسطيني في الداخل والشتات، في كلّ هيئاتها بدءاً بالمجلس الوطني الفلسطيني مروراً بالمجلس المركزي واللجنة التنفيذية للمنظمة وكلّ الاتحادات والمنظمات الشعبية القطاعية، لتكون قادرة على تمثيل الشعب الفلسطيني وممثلاً شرعياً ووحيداً له وقادرة على مواجهة الاحتلال ومخططاته والانتصار عليه وتحرير الأرض الفلسطينية المغتصبة من رجس الاحتلال. وكذلك أوسع دعم وإسناد شعبي دولي وعربي وفلسطيني في الميادين والساحات كافة في كلّ الدول العربية وفي كلّ أنحاء العالم ووقف التطبيع وقطع العلاقات مع الاحتلال وفرض العقوبات الدولية والمقاطعة نتيجة جرائمه المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
إنّ استمرار هذه المواجهة وتصعيدها لا بدّ أن يكون خيار الشعب الفلسطيني الوحيد للتخلص من رجس هذا الاحتلال الغاصب. فلذلك على القوى والأحزاب والمنظمات وكلّ مكونات الشعب الفلسطيني الموحدة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية بعد إعادة تشكيلها وتفعيلها، أن تعمل جاهدة على دعم هذه الموجة الانتفاضية بكلّ الإمكانيات الضرورية لاستمرارها وتشكيل قيادة واحدة موحّدة تكون قادرة على قيادة هذا الفعل الشعبي المميّز والشامل وتشكيل حاضنة جماهيرية لكلّ المناضلين من أبناء شعبنا، سواء في المواجهة المباشرة مع الاحتلال على كلّ نقاط التماس والاحتكاك مع الجنود والمستوطنين، أو بالعمليات الفردية والجماعية العفوية والمنظمة ضدّ قطعان المستوطنين وجنود الاحتلال في الاراضي المحتلة كافة، وتكبيد العدو الخسائر على مختلف الأصعدة ليدرك بأنّ مشروعه في احتلال فلسطين خاسر، وعليه أن يرحل كما رحل غيره من الاحتلالات في أكثر من بلد بفعل مقاومة شعوب هذه الدول.
وهذا هو الدرس الأهمّ والأبرز الذي تعلّمناه من تجارب الشعوب المناضلة في كلّ أنحاء العالم، سواء في منطقتنا أو على مستوى الكرة الارضية.
رئيس مركز الدراسات والتوثيق الاستراتيجي