معركة الجرود والآمال المعقودة على اللواء عباس إبراهيم

أسامة العرب

إنّ الإرهاب التكفيري لا يشكل خطراً على المنطقة فحسب، وإنما يشكل خطراً على الأمة، فالخطر التكفيري لم يكن مرتبطاً في ظهوره بمشروع سياسي لكي يكون هنالك حوار معه، وإنما شكّل منذ الأساس مخطط إبادة شاملاً متكاملاً يهدف إلى تدمير بنية المجتمع. والمقاومة التي حرّرت أرض الجنوب من رجس الإرهاب والاحتلال الصهيوني الغاصب ولقنت جيشه الذي لا يُقهر درساً قاسياً جداً وحطمت أسطورته، هي نفسها اليوم التي تحرّر جرود عرسال من الإرهاب التكفيري.

ونذكر جيداً ما حصل في العراق حين نشطت المجموعات التكفيرية لإثارة الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة، لنقل وجهة الصراع مع العدو «الإسرائيلي»، إلى صراع يهدف بالدرجة الأولى لتدمير خصوم الاحتلال ومنعهم من التوحّد حول مشروع مقاوم يضمن تحقيق توازن الرعب، وما يحصل اليوم في المنطقة لا يجوز النظر إليه على أنه أعمال إرهابية وحسب، وإنما مشروع منظّم ممنهج يهدف إلى إيقاع الفتنة بين السنة والشيعة واللبنانيين والسوريين والعراقيين والعرب والفرس والأكراد وما إلى ذلك من انقسامات قائمة في المنطقة، والهدف الأساسي هو تدمير شعوب المنطقة، بحيث يتمكّن المشروع التكفيري من طمس قضية فلسطين والقدس والأقصى، ومن ثم تأتي الانقسامات داخل الفكر التكفيري الواحد، ليصبح تنظيمات تكفيرية تتقاتل وتتناحر وتذبح وتسبي بعضها بعضاً، وهذا ما حصل فعلاً.

لقد آن الأوان لكي يستيقظ البعض من سباته العميق، ويعي بأنّ ما يحصل حولنا من أعمال إرهابية تندرّج ضمن مشروع تقسيم المقسّم لتفكيك الدول المجاورة لإسرائيل لدويلات ضعيفة ومتضعضعة وعاجزة حتى عن قول كلمة «كفى» لدولة الاحتلال. وهذا الأمر شهدناه في الأسبوع الماضي عندما بات يتوسّل بعض العرب نتنياهو لكي يتراجع عن قراره بإقفال المسجد الأقصى المبارك بوجه المصلين.

إنّ المسؤولية الحقيقية الآن تقتضي بأن نعي أنّ سياسات التقسيم التي أتى بها الانتداب منذ ما يقارب المئة عام، رمت إلى زعزعة كيانات المنطقة، وإلى منع شعوبها من أن تكون لها كلمة واحدة على الصعيد الأممي أو أيّ دور محوري على الساحة الدولية. الأمر الذي أدّى إلى تصنيفنا طيلة العقود المنصرمة كدول عالم ثالث، لا حق لها لا بنووي سلمي ولا بمصانع أسلحة ولا بمصانع طائرات حربية ولا سيارات ولا أجهزة الكترونية ولا أدوية ولا كهرباء ولا ماء ولا بنية تحتية. وما أدلّ على ذلك، من أنّ أكثر من خمسين دولة شرق أوسطية وأفريقية لا تملك حق النقض في مجلس الأمن، ولا سوقاً اقتصادية مشتركة ولا منظمة إقليمية فعّالة تضمن وحدة صفها وسلامة أمنها ومستقبلها.

لبنان كغيره من دول المنطقة يتعرّض للإرهاب التكفيري ذي الأهداف السياسية والمشروع التقسيمي الموحّد، ما يفرض إجماعنا حول إسقاط هذا المشروع ومواجهة الفكر التكفيري لاجتثاثه من جذوره، ذلك أنّ هذا الإرهاب التكفيري قتل وذبح جنودنا الأبطال وأرسل المفخخات إلى الداخل اللبناني ففجّر، وقتل الآمنين في بيوتهم ومحالهم وعلى الطرقات، وعاث في الأرض فساداً وهدّد وتوعّد بالمزيد من القتل وسفك الدماء والدمار. ولا يُخفى على أحد أنّ مرجعية الإرهاب ليست مستمدّة من الدين كما يزعم الإرهابيون، فليس في الدين ما يمكن أن يشكل مرجعية لهذا الإجرام الذي يُطيح بالبشر والأموال والمصائر، وإنما هم يستمدّون أفعالهم من تحريف الكلام عن مواضعه، ومن عمليات «غسل الأدمغة» التي يُشرف عليها أخصائيون نفسيون مخضرمون، وبحيث يروّج هؤلاء لمفاهيم مغلوطة عن النصوص والأحاديث الدينيّة تدعو إلى الإرهاب، مما يوقع المسؤولية على العلماء وأهل الفكر الذين يتوجّب عليهم تحصين المجتمعات من التغرير بها من خلال برامج توجيهٍ، ودورات تثقيفٍ، تكشفُ عن الفهم الصحيح للنصوص والمفاهيم.

كذلك فإنّ بعض المسؤولين في الغرب وبعض مفكريه وإعلامييه يستثمرون في هذه الجماعات المخالفة للدين للترويج بشكل غير مباشر لمشروع الدولة اليهودية ولنقل السفارة الأميركية إلى القدس. وقد كان صاموئيل فليبس هنتنغتون أوّل من روّج لهذا المشروع، حينما أصدر كتاباً فتنوياً بعنوان «صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي». أشار فيه إلى أنّ الصراعات المقبلة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الدينية المحرك الرئيسي للنزاعات بين البشر في السنين المقبلة. وقد ركز هنتنغتون على الإسلام مشيراً لصراعات المسلمين مع الثقافات والأديان الأخرى مثل الصراع في السودان وجنوبه، بين الهند وباكستان والصراعات داخل الهند نفسها بين المسلمين والهندوس، وتساءل هنتنغتون عما إذا كانت الهند ستبقى دولة ديمقراطية علمانية أو تتحوّل إلى دولة هندوسية على صعيد سياسي، ومشاكل الهجرة في أوروبا وتنامي العنصرية في ألمانيا وإيطاليا ضدّ المهاجرين من شمال أفريقيا وتركيا، ومشاكل المسلمين التركمان في الصين، وصراعات المسلمين الآزيريين مع الأرمن، وصراعات المسلمين في آسيا الوسطى مع الروس، وصراعات المسلمين الأتراك في بلغاريا، ثم حدّد الصراع بأنه صراع بين العالم أجمع من جهة، والمسلمين من جهة أخرى.

وبالتالي، فإنّ المطلوب اليوم على المستوى الإعلامي والفكري أن تتوقف المحطات التلفزيونية والفضائيات والإذاعيات عن الترويج للتكفيريين وللأفكار الفتنوية المذهبية التي هي المادة الخام لتصنيع الانتحاريين، وينبغي أن يكون هنالك خطة إقليمية تتوحّد فيها القطاعات الخاصة والرسمية لمواجهة المحطات الفتنوية التي ليس لها مهمة سوى نشر التعصّب المذهبي والأفكار المنحرفة.

أما بعدما تحقق الانتصار الكبير في الموصل وجرود عرسال، يمكننا القول بأنّ تصفية قضية فلسطين وحق العودة والأقصى على قاعدة الانقسامات المذهبية والتفكك والتقسيم، والاعتراف بيهودية الدولة العبرية، باتت أمراً مستحيلاً، حيث أثبتت معادلة الشعب والجيش والمقاومة، بأنها تجربة إقليمية ناجحة بامتياز، تتكسّر على أعتابها المؤامرات كلّها، كيف لا والشعب هو مَن أسّس الجيش وهو مَن أسّس المقاومة، وهو مَن حفظ تلاحمهما ليردع العدو عن احتلال أراضيه.

ولمن رفض بأن يدرج هذه المعادلة الذهبية بالبيان الوزاري اللبناني، نقول له بأنّ حججه قد سقطت اليوم، وبأنّ مشروع الدولة القوية سوف لن يتحقق إلا بتحقيق الإجماع الوطني حول المقاومة التي انتصرت مع الجيش بتموز 2006 على العدو «الإسرائيلي»، وبتموز 2017 على المشروع التكفيري. كما نأمل بأن تُدرج معادلة «الشعب والجيش والمقاومة»، عوضاً عن عبارة «الحق بالمقاومة للشعب اللبناني» في البيان الوزاري للحكومة المقبلة، لكي لا يتنكّر البعض لجهود المقاومة بتحرير واستكمال تحرير بلادها. والآمال معقودة اليوم على اللواء عباس إبراهيم الذي خاطر بحياته سابقاً لتحرير العسكريين اللبنانيين المخطوفين لدى النصرة، والذي يُخاطر بحياته أيضاً عندما أدار ويدير عمليات التفاوض لتحرير الجرود المحتلة واستكمال تحريرها، لا سيما جرود رأس بعلبك والقاع، والذي يحضّر والجيش اللبناني والمقاومة معركة تحرير هذه الجرود، إذا فشلت المفاوضات الساعية لطردهم منها. لا سيما أنّ اللواء المميّز يتابع المفاوضات حتى يستطيع أن يضمن التحرير بالشكل الذي يحافظ فيه على سيادة لبنان وعلى هيبة مؤسساته. وكيف تكون الهيبة إلا بتحرير الجرود المحتلة وباسترجاع أبنائنا العسكريين المخطوفين لدى داعش، والذين لم ولن يتخلّى عنهم اللواء إبراهيم حتى يتمكن من الإفراج عنهم. وإليه نقول، الآمال كلها معقودة على شجاعتك وشهامتك، لرفع الضيم عن أهالي المناطق المحتلة وأهالي الأسرى المساكين، ولإعادة الهيبة المفقودة للدولة اللبنانية.

محام، نائب رئيس الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى