جنبلاط قال شيئاً «أميركياً»

روزانا رمّال

للمرّة الثانية على التوالي يتقصّد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الكشف عن مواطن الخلاف الكبرى التي اتسعت في العلاقة بينه وتيار المستقبل، والإشارة الى الموقف المتقدّم حيال ملفات وقصص حساسة، هي محطّات خلافية محلية، بات جنبلاط أكثر جهوزية من غيره لإعلان موقف مباشر اتجاهها، ولو كان ذلك على حساب تصنيفها كتحوّل في اللهجة الاشتراكية وإعلان عام الى ان المتغيرات الحاصلة في المنطقة هي مما يدركه الاشتراكيون المستعدّون للتموضع ضمنه، كما كانت العادة باستشراف جنبلاط، مسبقاً المواقف الدولية تجاه لبنان، خصوصاً في مرحلة ما بعد اجتياح العراق عام 2003، حيث سبقت مواقف جنبلاط اللافتة حول سورية مرحلة اغتيال الرئيس رفيق الحريري العام 2005.

وجّه جنبلاط بتلقائيته المعهودة بالمواقف المثيرة للجدل تحية لشهداء حزب الله الذين قضوا خلال مشاركتهم في معارك عرسال الحدودية بالمرحلة الأولى لتنفيذ المهمة، كما أسماها. وهو الأمر الذي يعتبر موقفاً متقدماً جداً منه توقيتاً وأسلوباً. فهؤلاء الذين أسماهم شهداء هم أنفسهم كانوا بالقريب العاجل عناصر يقاتلون من اجل الدفاع المستميت عن النظام السوري المجرم، كما صرّح في أكثر من مرة على مدار سنوات الازمة. هو حاول هنا بدون شك فصل قتال حزب الله في سورية عن قتاله في جرود عرسال، واعتبار المهمتين مختلفتين. وهو الأمر الذي لا يعترف به حزب الله الذي لا يفصل المعركتين عن بعضهما، ولا يعتبر عملياته في سورية الا جزءاً من نشاطه لحماية لبنان. وعلى هذا الاساس تبدو اشارة جنبلاط شديدة الأهمية لناحية الدور والرسالة التي يريد ايصالها لحزب الله، أهمها تقديس شهدائه وثانيها تخليه عن مواقفه المتطرفة باتجاه السياسة التي يسلكها الحزب، والتي اعتبرها توريطاً للبنان. وفي هذا الإطار يلفت مصدر متابع لـ»البناء» إلى أن «كلام موقف جنبلاط هذا ليس موقفاً يُصرَف بالحسابات المحلية والانتخابية فحسب، إنما هو تحوّل كبير في ما كان يراه أساسياً في روحية الثورات العربية والمقاتلين من أجلها، خصوصاً أن هؤلاء الذين يطاردهم حزب الله في الجرود والتلال ويتعقّبهم من أقصى سورية الى أقصاها هم فريق ممن اعتبرهم جنبلاط يوماً «ثواراً»، فكيف الحال والمعركة الاساسية في الجرود كانت مخصصة اصلاً للمواجهة مع «جبهة النصرة». وهي تحديداً الجهة التي ربطها وليد جنبلاط بالثورة مسبقاً؟».

أولى مؤشرات زيارة جنبلاط الأخيرة الى روسيا السياسية ومعه وفد مرافق اتضحت بما ترجمه حول عمليات حزب الله التي تندرج ضمن مشروع روسيا لمكافحة الإرهاب، وهو مشروعها الاول والاخير الذي استقدمت عديدها وعتادها من أجله الى سورية عملياً. وهو بالتالي اكثر ما يعنيها بقراءتها لحلفائها الجدد او مؤيديها. واذا كان جنبلاط وجه هذا الحديث الذي يشبه المباركة لحزب الله شريك روسيا في الميدان من أجل أن يصل الى مسامع المعنيين في موسكو، فإن هذا يعني شيئاً واحداً وهو اعترافه بالدور الروسي الكبير المقبل الى المنطقة بحساباته ومعاييره كلها.

حسابات جنبلاط التي لا تبتعد عن الموقف الأميركي غالباً تؤكد ان التعاون الأميركي الروسي أخذ يتمركز بشكل أعمق في ما يتعلق بمكافحة المجموعات المسلحة. وهو ما يعني أن قرار القضاء عليها قد اتخذ وفي معلومات سابقة لـ»البناء» أعقبت قمة بوتين وترامب في هامبورغ الألمانية، فإن «هناك ما يوحي بأن اتفاقاً جرى بين الأميركيين والروس على أن يكون هناك تقدم كبير جداً ونهائي في الملف السوري من الآن حتى آخر السنة. وهو الموعد الذي يتقاطع مع انسحاب الأميركيين من أفغانستان والاتفاق المباشر مع روسيا على شكل المرحلة المقبلة بالمنطقة».

مواقف جنبلاط التي لا يضعها عارفوه أبداً إلا ضمن أطر محسوبة ومدروسة، هي أحد أهم ما يميّزه من بين الساسة اللبنانيين. وهو واحد ممن قرروا لعب السياسة على المكشوف من دون أي إحراج من تبدّل من هنا أو فشل سياسي من هناك، طالما أنه دائماً مؤيد لمواقف الدول الكبرى التي بدورها تعترف بهزائمها. وهذا ما يجعل من هذه المواقف محطة أخذ وجذب في الساحة المحلية السياسية، خصوصاً اليوم والبلاد تتحضّر لاستحقاق انتخابي منتظر.

وبالعودة إلى الخلاف الثاني الواضح مع الحريري فإن موقف جنبلاط من حزب الله هذا، يأتي بعد موقف آخر له حيال دعم واضح للسعودية من موسكو في ما يتعلّق بالأزمة الخليجية. وهو الأمر الذي لم يصدر عن الحريري فيه حتى الساعة موقف مباشر يضع فيه قطر في خانة «الخصم» عملاً بحلفائه السعوديين «أولياء النعمة سياسياً» من دون أن يعني ذلك تموضعاً لجنبلاط في الناحية المختلفة مع قطر، إنما يسجّل لجهة إحراج الحريري عند السعوديين لعدم تأييدهم المأمول فيه كرئيس لوزراء لبنان علناً، وهذا يعود الى حسابات داخلية صرفة تتعلّق بالاختلاف الكبير الذي بات يتوسع يوماً بعد الآخر بين تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، بسبب تحالفات المستقبل المستجدة الجديدة، خصوصاً ثنائية التيار الوطني الحر وتيار المستقبل، تُضاف إليها الثنائية المسيحية «التيار الوطني الحر القوات اللبنانية» التي أثّرت بشكل كبير على حسابات جنبلاطية متعدّدة بتقاطعاتها.

ليس غريباً على النائب جنبلاط مفاجأة الناس في كل مرة يقرّر فيها أن يقول لهم إن شيئاً ما تغيّر في الحسابات الدولية، هو لا يزال يتربّع على عرش لقب «ساعة التوقيت الأميركية» محلياً، وهي الساعة التي قررت مشاركة روسيا كقدر لا مفرّ منه بحل أزمات المنطقة قريباً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى