لجيشنا السوري البطل رايات خفّاقة وانتصارات برّاقة…

محمد ح. الحاج

منذ الأول من آب 1945 حتى اليوم، اثنتان وسبعون سنة حافلة بالعطاء والتضحية لشباب مؤمن مسكون بحب الوطن وفداء الأمّة، قبل حتى أن يعلن الأجنبيّ نهاية احتلاله والخروج صاغراً منهياً ربع قرن من الوصاية مستظلّاً قرار عصبة الأمم المنتصرة.

الأول من آب كلّ عام، هو عيد تأسيس وقيامة جناحَي هذا الجيش التوأم في الشام ولبنان، وقد لا يذكر كثيرون أنّ الكلية الحربية في حمص كانت تخرّج الضباط لكلا الجيشين، وما كان من تمييز بينهما، وكم تسلّم ضباط من لبنان قيادة وحدات ومسؤوليات كبيرة في جيش الشام، ولو خلصت نوايا السياسيين في الكيانين التوأم لما انفصل الجيشان، ولكان توحيدهما خطوة صحيحة على طريق استعادة وحدة كيانين مهمّين يتحكّمان بواجهة البحر السوري الكبير المتوسط .

مسيرة جيشنا البطل في كلّ كياناته خطّت صفحات خالدة في التاريخ، بدأت في سنّ اليفاعة المبكر وما كان عمر أيّ منها سنوات قليلة، مع بساطة التسليح وحجم التآمر الغربي وتزويد العصابات الصهيونية بكلّ أنواع السلاح والوقوف إلى جانب اعتداءاتها وتغطيتها جواً، ومع ذلك كاد المشروع أن يسقط ويتلاشى لولا اختراق القيادة العليا للجيش العربي وتسليمها لبريطاني صهيوني متآمر كان يعطي الأوامر الكفيلة بوقوع وحدات جيشنا في المسالك القاتلة مع حتمية الفشل والهزيمة، كأن يطلب من وحدات المدفعيّة الفاعلة أن تنقل إلى الوديان والزوايا الميتة، وأن يطلب انسحاب الوحدات المتقدّمة، ولقد سجّل كثير من ضباط تلك الحقبة مذكّراتهم التي فضحت القيادات العميلة المتواطئة وشحنات السلاح الفاسدة، أو التي تمّ الإبلاغ عنها أو توجيهها لتقع بين يديّ العدو.

مدفعيّة الجناحين اللبناني والشامي للجيش سجّلت انتصارات باهرة ودقيقة برغم التآمر والتواطؤ، فقد شهد العالم بذكاء وتفوّق ضباط المدفعيّة، كما وقف طويلاً أمام بطولات ضباط المشاة في كافة الوحدات، اللبنانية والشامية وأيضاً العراقية، وذهب كلّ جهد تلك الوحدات مع رياح الخيانة والتآمر.

في الخمسينات، ورغم الهدنة التي ضمنت للعدو استمرار وجوده وإعادة تسليحه بسرعة وتجميع قواه من كلّ الأصقاع، خاض جيشنا معارك مشهودة سجّلتها صفحات ناصعة، وسجّلت معها تخاذل الكثير من القيادات على مساحة الأمّة، خاصة في الأردن والعراق، وحتى في لبنان والشام وإنْ كان بنسبة أقلّ، وسجّل التاريخ لبطل سوريّ واقعة غير مسبوقة في حرب السويس 1956 عندما دمّر أقوى بارجة فرنسية… هو الضابط البطل جول جمال.

لم تهدأ المعارك مع العدو عبر عقد كامل، حيث كانت تتجدّد في كلّ حين ردّاً على اعتداءات العصابات الصهيونيّة على الأرض والمياه، ومن تلك المعارك معركة التوافيق والكرامة وغيرها… إذ كان العدو يجرّب أنواعاً من الأسلحة أتخمه بها الغرب، وخاصة الأميركي الذي أخذ مكان البريطاني والفرنسي أواخر الخمسينات، وأصبح الراعي الحصري الذي قدّم للعدو أحدث الأسلحة قبل أن يتمّ تزويد الجيش الأميركي بها.

الضربة الاستباقية للمطارات المصريّة والقواعد المنتشرة على طول وعرض الأرض المصريّة كانت حاسمة، وأضعفت موقف الجيش في الشام الذي أفسده السياسيّون وأدخلوه في صراعاتهم، مع ذلك سجّلت وحداته بطولات اعتمدت المبادرة الفرديّة في ظلّ تفوّق جويّ، ما اضطرّ وحداته إلى إخلاء محافظة بكاملها واعتبر ذلك من أكبر النكسات التي حلّت بالشام.

جدير بالذكر أنّ الهجوم لصهيوني كان بناءً على توجيهات أميركيّة وبطلب من ملك السعودية فيصل، وكان نصف الجيش المصري غارقاً في حرب اليمن، وقد تعهّد فيصل برسالته أن يعوّض خسائر العدو الصهيوني كاملة تمّ نشر القصة سابقاً .

بعد السادس عشر من تشرين الثاني 1970، ونجاح الحركة التصحيحية ووقف الصراع السياسي، اتّجه الرئيس الراحل حافظ الأسد لإعادة تأهيل الجيش ورفع مستواه التسليحي والتدريبي، منطلقاً من قناعة ضرورة ردّ الاعتبار واستعادة الأراضي المحتلّة، وقد استند بذلك إلى قرارات الجامعة العربية، وما كان يشكّ أنّها مخروقة وأنّ هناك جهات تتعامل سرّاً مع العدو وتسرّب له المعلومات عن كلّ تطوّر، إضافة إلى أنشطة الاستخبارات الغربية المتنوّعة والتي كانت في خدمة العدو.

السادس من تشرين الأول 1973 كان موعدنا مع الثأر، وكان لي شرف المشاركة وعلى الخط الأول، وانطلق عقبان الجوّ لتدمير نقاط ارتكاز ومواقع العدو الأماميّة المحصنة، وما هي إلّا ساعات حتى كنّا خلف خطوطه وبأقلّ الخسائر وسقطت حصونه الواحد تلو الآخر، ولم تكتمل الفرحة فقد دخل الطيران الأميركي بعد اليوم الثالث إلى جانب العدو، وكنت واحداً ممّن نقل أجزاء من طائرة جرى لصق العلم الصهيوني فوق الأميركي مع كرسيّين للطيارين ومظلّاتهم وأوراق الطائرة، وقد أخذ الإخلاء جثامين الطيارين… وكان عليها خطّاف هبوط على الحاملة الراسية أمام سواحل فلسطين.

الرئيس السادات الذي اتّفق سرّاً مع وزير الخارجية الأميركي، لتكون حرب تحريك لا تحرير، وثغرة الدفرسوار التي أصرّ السادات على عدم القضاء عليها في لحظاتها الأولى ومخالفته رأي القادة الآخرين، جعلت الأمور تتغيّر لصالح العدو على الجبهة الغربية، وتبع ذلك وقف النار وتفرّغ العدو ليضع ثقله كاملاً على الجبهة الشرقية، واضطررنا إلى الخروج من معظم الجولان الجنوبي الذي حرّرناه بعد أن جرى الخرق شمالاً عند سفوح جبل الشيخ.

لم نخسر الحرب، ولم يربحها العدو، بل وصل حافّة الانهيار، وكادت عصابات مستوطنيه ترفع الأعلام البيضاء، إلّا أنّ قرار دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركيّة لا يسمح بسقوط مشروعها وزواله، فكانت مبادرتها وتدخّلها المباشر والجسر الجويّ الهائل الذي عوّض خسائر العدو الفادحة، وخاصّة في الطيران الذي أُبيد بشكلٍ شبه شامل، وقد لاحظنا في الأيام الأخيرة اضطراره لاستخدام طائرات قديمة كانت منسّقة أو تدريبيّة، وكانت تتساقط كالذباب تحت ضربات المدافع الرباعيّة والثنائيّات والصواريخ المحمولة، ولا يمكن تجاهل عمليّات التشويش الهائلة على اتصالات الجيش ووضع أقمار التجسّس العسكرية في خدمة تحرّك العدو، الذي كان يتنقّل وأمامه طرق مكشوفة، وكنّا نتلمّس طريقنا وكأنّنا نسير في ظلمة.

حرب 1973 مفخرة ونصر عسكري كبير اعترف به العالم ضمناً وتمّ تدريس خططها وتفاصيلها لسنوات ضمن الأكاديميّات العسكرية الكبرى، والاستفادة منها، لكنّ انتصارنا تمّت سرقته والتآمر عليه وكنّا بمواجهة أعتى القوى العالمية، وإذ تمّ التعويض عن خسائر العدو بعد أشهر، فقد احتاج جيشنا لسنوات للتعويض عن خسائره في المعدّات، وأيضاً تطوير ما لديه لمجاراة التطوّر التقني العالمي.

الحرب الداخلية اللبنانية كانت انتقاماً من الكيانات المحيطة بفلسطين، والجيش الذي وقف بمواجهة العدو وأذاقه معنى الهزيمة والإذلال، وإذا كان للمنظمة المسمّاة الجامعة العربية دور كبير في توريط جيش الشام في حمأة الصراع الداخلي اللبناني المموّل والمدعوم من دول خارجيّة، عربيّة وعالميّة، والغاية صرف الأنظار وإعطاء فرصة كبيرة للعدوّ الصهيوني للاستقرار والبناء من جديد… لكن، والحق يُقال إنّ الجيش الشامي نجح في منع تقسيم لبنان إلى كانتونات طائفيّة ومذهبية.

ورغم التآمر، فإنّ للجيش اللبناني الذي طالته التجزئة والانشقاقات على قاعدة ولاءات طائفيّة ومذهبيّة، والشامي بما هو عليه، مواقف سجّلها التاريخ كأفضل من يقاتل دفاعاً عن الأرض والكرامة، وأثبتا أنّ شعاريهما: وطن.. شرف.. إخلاص و شرف.. تضحية.. وفاء ، يتجسّدان حقّاً في السلوك العام لكليهما، ضبّاطاً وأفراداً، استحقّا من الشعب تحية من القلوب والعقول، مع القول والإيمان أنّ جيشنا هو فخرنا وعزّنا وحامي حمانا، نعم إنّهم حماة الديار.

بالمناسبة، تحية التقدير والإكبار لجيشنا في العراق البطل، وهو الذي لم يدّخر جهداً في الوقوف إلى جانب أبناء شعبه وأمّته رغم كلّ المؤامرات التي طالته هادفة إلى تدميره ومنعه من القيام بواجبه في الوقوف إلى جانب قضايا أمّته.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى