تجلّيات المنفى في مُنجز «تلوّح لي بشالها الأبيض» لعبد الجبار الجبوري

أحمد الشيخاوي

في حلّة أنيقة جدّاً، صدر للشاعر العراقي المغترب عبد الجبار الجبوري، عن دار «تمّوز» اللبنانية، خامس مجاميعه الشعرية ذات الوسوم «تلوّح لي بشالها الأبيض» والتي يقبع صوت المنفى عنوانها الأبرز، وإن تلوّنت مواضيعها وتوزّعت بين مدلولات ثقل الرواسب وتراخي عناقيد الحياة الجديدة المتلقّفة الذات بجملة من الإغراءات، ناهيك عن نكهة ممغنطة مفتية بضرورة الانفصام والفكاك من أوزار الذاكرة.

ولعل ما يميّز هذه التجربة القيمة، خلافاً لما دأب عليه شاعرنا في ما مضى من دواوين ملحمية ممسوسة بإيقاعات حماسية مستنهضة للهمم، ذلكم العقوق المعلن والمضاد لديدن أو تقليد السّطر الشعري القصير وحتّى المتوسّط ، والاستعاضة عنه بالجملة الطويلة المفككة إلى فواصل، بما الممارسة في جوهرها، استدعاء لمنظومة ميكانيزمات محقّقة لأغراض الاسترسال الدلالي اللاهث القادر على إرباك المتلقّي والقذف به عميقاً في دوامة من الدّهشة السّرمدية على مدار استنفاذ رؤى فعل البوح في كلّيته، وبالتالي اقتراف شروط الصياغة النهائية للقصد من كتابة صادقة نابعة من مرايا روحية مستفزّة لجوانب الوجع الإنساني المقيم في ذاكرة معطّلة تنزع نحو إفراغ الكأس ومن ثمّ تجديد مَلئها بما هو باذخ ومغاير وأقوى لحمة والتصاقاً بمفاهيم وجودية تعزز المُثل وتذكي حسّ الانتماء .

لا شكّ في أنها تجربة تنطلق من أقصى نقاط المنطقة الغائرة في المابين، مملية بذلك شعرية البرزح أو الحدّ الفاصل بين جحيم المعاناة الفردية وإيحاءات الهمّ الجمعي.

خطاب باذخ ثري بالصّور المدغدغة والمترعة بخواطر الانشطار الذاتي إلى نصفين، الأول موهوب للحبيبة والثاني للوطن، ويكون الرداء على الدوام، ما يفضي إلى المعادلة المرّة المفتية بازدواجية مفاهيمية تلثم مفردة «الكفن» ضمن حقول دلالية مستقاة من سياق شمولي مبرّر للوظيفة التكرارية المعنية بها لعبة إقحام البحر ولون البياض في عدّة مواطن من هذه السيرة التعبيرية، في اتهامها للآني المسكون بأشباح وشياطين وظلال ما هو رجعي، مجدّد لنبض عروقه عبر عبثية وجزافية العزف على وتر الربوع الخاوية المنقرضة مسكونة بالجبروت المرّ للأيام الخوالي.

من هنا تتفتّق أسلوبية ما يشبه تصفية الحسابات مع المحطات الأكثر رسوخاً في الذاكرة، بغرض منح هذه الأخيرة انتعاشة مخوّلة لاقتراف دمغات غيبية ورؤى استشرافية سابقة للزمن، ومصحّحة للمسار ومعالجة لانتكاسات الذات.

تلوّح لي بشالها الأبيض، هذه العتبة تضمر فوق همسها الظاهر، أيقونة من الدوال، المتوجّب تملّيها بعمى الألوان، قصد استشفاف أدنى لماهية النّص، وفضّ أسرار المكنون.

ببصيرة وانثيالات متّقدة يجب أن تُحاط، ليتبين إلى أيّ مدى، شاعرنا، يسلك الجيوب الضمنية الأعمق أثراً في نفسية المتلقي، ودائماً باعتماد المعجم الصافي البسيط للغاية، بمعزل عن أضرب التعتيم والتعقيدات المنفّرة.

باختصار، نجد الحكاية تنهض من رماد الوجود، لتجترح ولادات متعاقبة رامزة إلى طاقة جبارة وقدرة خارقة على المقاومة والصمود والنضال.

باعتبار ملامح عرس الدّم، السّمة الطاغية على توجهات وانتشار المعمار الكلامي المتعثر بجمله الطويلة جدا، وحيّزه المفقّر، حدّ التداخل والتشابك المناور بمتتالية معان محذوفة، تتطلّب من القارئ جهداً للوصول إلى ما تنطوي عليه من حقائق علقمية تدين راهننا وتصبّ جمّ غضبها عليه.

فلْنصغ ملّياً إلى هذه الالتماعات الصاعقة بكثافة تصويرها الفني وعمق أغراضها، ليتأكّد لنا، إلى أيّ حدّ، تتنفّس الذات الإبداعية، صدق العرى مع حيثيات وتفاصيل اليومي، وتعرّي مرايا روحية لتطعننا بلذة المختلف والمغاير تماما، والمفلسف لثقافة الخلق والابتكار:

«… أيتها الأنثى مري فوق جراحي تطيب، مري فوق دمائي تصيح، مري فوق بلادي يزهر قداح الحب على شفتيك، وتطلع أيامي من بين نهديك».

«كوخ معها يكفي على كتف البحر، سيكون البحر سعيد وأنا وهي أسعد، قالت لي يومك سعيد هذا اليوم، خجل اليوم لأنه يعرف إنني لست سعيداً هذا اليوم، لذا ذهبت حزيناً للبحر، وكان البحر حزينا… ».

«… وارى حلمات تورق فوق رمل قصيدتك، وارى ودياناً غطتها ثلوج الله، وأـرى شفاهاً عطشى لشفاه، وقلوبنا تبكي لقلوب، وضحكة يأسى حتى الحجر ا سود منها».

«… الآن أراها تغزل عباءة لغيري يلبسها، وانأ ما زلت أبحث عن ظل يوصلني لخطوها».

«حين أقبّل فم الوردة ينهمر العسل الجبلي من شفتيها على أديم شفتي».

«منذ أن كانت قصيدتي تحبو على يديك، كان حرفها يلثغ بِاسمك .وصوتها يلهج به. هي اآن تلبس عباءة شفتيك، وأسوار عينيك، وبرق ضحكتك الذهبية القاتلة».

«أحنّ إلى غيمة تمطر ولكنها تضيء. أحنّ إلى نجمة تائهة في السماء لكنها تدل القوافل إلى قلبي. أحنّ إلى قلب جريح وعين دامعة ونشيد حزين».

«لن ألوح لها أبداً بعد الآن، فشالها الأبيض، يغطي كفّ الرحيل، وصوتها يشق رايات حزني البعيد، أراه الآن يمسد شعر قصيدتي الوحيدة، قصيدتي التي تصهل فوق شفتيها وتمطر من خمرة غيابها، سراباً، الآن أراها تلوح لي من خلف غيمة خجولة، ودمعة طريدة».

«سأرسم على شفتيك عراقاً… وأقبّله».

«قصائدي التي بين يديك، ليست دليل حبّي لك فقط، أنها إعشاب أيامي التي تنمو على نافذة طفولتك، وهي توغل في دمي، أعلى صبابتي أنت، أعلى مراقي وجعي ووحشتي التي لا تفارقها الطعنات، أنت غواية حلمي وهي تخيط لك موجات البحر شراعاً للرحيل إلى شواطئ النهار الأخير».

«أرسم على شفتيها وطناً مستباحاً…

وقبلة باردة…

وألوّن أشجارهما بالقبل…

وقفت على

رسم أسائله

ثم أيمّم وجهي

شطر بيتها العتيق

أرعى هناك مهرتين نافرتين

عيونهما تصبّان حليب الليل

على إناء فمي».

«الشجن هي وهي تفلّي صباحاتي بالعناق، الشجن قارب يدنو من شفتيها إلى مرافئ الحلم القديم، الشجن قلبي وهو يحبو إليها كطفل ويلعب بشعرها كطفل ويقبل شفتيها كطفل ويمسد شعرها كطفل ويركض خلفها حتى تسقط على عشب صدري كطفل ويراقص خصرها الحرير كطفل ـ أنا طفل بين يديها ـ فلا تتعجبوا لأني أحبّها هكذا بنت الـ… أحبّها».

«قالت الريح للموجة اجلسي فوق دمعة النهر، فالنهر حزين هذا اليوم، ولا صدى لقصيدة تتدحرج على لسان الرمال، إنها أغنيتي كتبت كلماتها بأزميل روحي، ولحنتها بدمعتي، وعزفت موسيقاها برمش جفوني، فكيف لا ترقصين على نغماتها، وأنت صدى طفولتها، أيتها الغريبة في ديار الردى، تعالي فأنا انتظرك هناك، نعم هناك على ساحل البحر الذي لا يضيء إلا لعينيك، ولا يسرج مويجاته إلا لك، ولا يهدأ إلا لجلوسك على سواحله البعيدة، تعالي تعالي الآن أنا هنا من ألف عام انتظر اللقاء بعينيك، والتوحد فيك، والبكاء بين يديك، والغناء بين يديك، والموت بين يديك، البحر يناديك».

«أسرق من شفتيها عسل الطفولة البعيد، وترسمني عيناها على سن رمح جديد بهجة لأنوثتها، القصائد تهجر الوقت في مواسمها».

عشرات القصائد يطالعنا بها، سندباد القصيد، مثلما سمّيته في إحدى المناسبات، كونه لا تملّ الأسفار والتوغّل في خبايا آدميتنا، لتستفزّ الجرح، وتنقر قيحه وصديده، على نحول يغسل مشاعر الاشمئزاز المرافقة له، بمعسول ما تتقوقع عليه من تلافيف هذيانية، هي في الأصل، من توقيع لعبة كلامية مصقولة، الصولة والأثر البليغ فيها للذهن ورقصاته، بدرجة أولى محيّرة وباعثة على تباشير الكتابة الاستثنائية الجديدة.

تغوص بنا هذه التعبيرية في دائرة من أنسنة العنصر الطبيعي على مختلف مشاربه وتلاوينه، والارتقاء بالفعل الإبداعي إلى سلّم من المحسنات البديعية والبراعة المتصنّعة المتيحة لزخم قائل بأقصى درجات الإحساس ليعادل حجم استشعار الغصة والمرارة وشتى ما هو ناجم في الأساس، عن هوامش مناخ الدموية والاضطرابات والاغتراب الروحي.

كتابة وإن لم تخل من هفوات، لسقوطها في فخّ الحشو، والإسراف اللغوي أحيانا، المبرّر بنية التوسع في جسدنة الموقف، والرّغبة بإحداث أبلغ أثر في نفسية المتلقي، والمبالغة في محاولات إضفاء الملمس الجمالي على الفكرة التي هي نموذجية وهامسة بمغزاها وبسيطة جداً في العمق.

يتقاذف شاعرنا كرة البديع، ليرسم أفقاً ضاجاً بتداخلات سمعية ــ بصرية، وصاحبنا مكثار في هذا الشأن، لدرجة فقد الكرة في اللحظات الأخيرة من تنميق المعنى المشرع على احتمالات التأويل المناوئ بخصوبة مخيال مغر بهشاشة ما يمكن أن تجود به ذات متملّقة ومنحازة إلى جهات العراء في المتعلّق بطوباوية النّصوص الملحمية والمطوّلات الراقصة على إيقاعات أوجاع الوجد و عذابات الوطن.

ثمّة تضاربات مملية بها ذات الانشطار، من جهة أولى، ما بين نزوع شهواني مبطّن بصوفية مغرّدة خارج سرب العقائد العتيقة المتآكلة والمستنزفة للمعنى الاستطيقي المدبّج بسيولة مخملية للإيديولوجية البانية لعالم بات يتجاوزنا ويتعمّد مبارزة الخبء والنبيل والجميل في ما تصمت عليه إنسانيتنا المتبقية.

ومن جهة ثانية، حسّ الانتماء، ونبض الهواجس الوطنية، المتسامقة وشموخ بلد عربي من طينة عراقنا الأشمّ، برغم ما ألمّ يولمّ به من تكالبات وخيانات طامسة للهوية ومعمّقة للشرخ ومحتكرة للحلم العروبي المشروع.

إنه خطاب شعري يزاوج بين المفردات التي تكتفي برشق جانب الأنوثة، في خلطة مخلخلة لجموح الكامن الجنساني، ويقترف مقامرات المناوشة بمتون الإخلاص والوفاء للوطن عبر اشتراطات الإخلاص والوفاء للقصيدة كذلك، ومزج حروفها بأريج دم الفؤاد والوريد، كأنه ضرب من عفاف فكري، و تسام موف بأغراض موازاة ومؤاخاة وطن الفقد والتضحيات والقرابين.

وحدة تعبيرية مغرضة، نكهتها مستمدّة من التّشظي والمفارقات المغرقة في وصف المشترك ما بين الحبيبة والوطن كوجهين لعملة واحدة.

كتابة منفى ومنفى الكتابة بتفاصيلها الخفية المعلنة، الغائبة الحاضرة، التي لا يمكن إلّا تحفر عميقاً في شغاف القلوب، وعلى جدران الوعي، نظراً إلى قوة الخطاب المولّد صدمة حقيقية وثقله، بمجرّد احتكاك مبدئي مع عتبة الديوان.

العتبة بما هي مسافة إضمار مكثّفة لألغاز الذات، من خلال تفادي نعوت وتفسيرات زمن دامٍ، ولوثة عاطفية إذ تضغط بنموذجية الأنوثة حدّ صهرها بالحالة النشاز، عند تقاطعات سيريّة يدشّنها انتحار الحرف واللون.

وفي الختام، ليس بوسع سوى منفى طوعياً على هذا المنوال، الامتلاء بكل هذه الهواجس، والاحتقان بنظير كهذه حمولات، مغرية طقوسه بقطوف حياة التجدّد والتعدّد والمختلف المسعف في صياغات مغايرة لرؤية الذات والعالم.

شاعر وناقد مغربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى