استكمال تطهير الجرود وبعض الدعم المسموم للجيش
العميد د. أمين محمد حطيط
أنتجت عملية تحرير جرود عرسال وتطهيرها من جبهة النصرة حالة من الوحدة الوطنية لم يعرفها لبنان منذ زمن، ولم يخرج عليها إلا صوتان لكلّ منهما حساباته وارتباطاته الخاصة التي تمنعه عن قول الحق والنطق بالموضوعية، مهما كان الأمر واضحاً، ولكن رئيس الجمهورية لم يتوقف عند ما قاله هؤلاء وأطلق القول الفصل، معتبراً أنّ الإنجاز الذي حققته المقاومة في تلك الجرود الوعرة، انتصار للبنان، يجب أن تستكمله القوات المسلحة حتى تعود الجرود بكاملها الى سيادة الدولة ويبعد الخطر العسكري الذي يتهدّد لبنان من حدوده الشرقية. وفي هذا الارتقاب والتكليف للقوات المسلحة يكمن سؤال واستفسار لا بدّ من مواجهته بدقة.
من البديهي أن يُقال بأنّ الجيش اللبناني هو المعني بالتكليف الوطني، ومن البديهي القول بأنّ الجيش اللبناني هو مَن يبادر أو سيبادر إلى استكمال ما تبقى من مهمة التطهير. وهنا قد يبدو موقف مَن اشتُهر بالعداء للجيش، وفجأة استفاق على أهمية الجيش وأبدى دعمه له من أجل القيام منفرداً بعملية التطهير من دون مساعدة من أحد يبدو الموقف في ظاهره صواباً، ولكن إذا تمحّصنا في الأمر فإننا نجد فيه الخبث والخطر، خبث يبديه أصحابه ضدّ المقاومة والجيش السوري وعداء لهما، وخطر يتهدّد الجيش في إلقاء أعباء مهمة ليست بالبسيطة من دون أن يكون له في الميدان عضد.
لذلك نقول ورغم البديهيات أعلاه، أنّ من البديهي أيضاً التصرّف والسلوك على أساس انّ الجيش اللبناني هو الأدرى بما عليه أن يعمل وبأيّ طريقة وكيفية. وبالتالي لا يكون مقبولاً تنطّح من لا عهد له بالعمل العسكري، أو مَن كان تاريخه حافلاً بالعداء للجيش ومقارعته ميدانياً، وقتل أفراده واستباحة مراكزه وأسلحته، القوات اللبنانية أو مَن اشتُهر بالتضييق على الجيش في كلّ صغيرة أو كبيرة تعنيه من ميزانية الدولة وحاول إنشاء الجيش البديل أو شعبة المخابرات البديلة تيار المستقبل ، لا يكون مقبولاً تنطح هؤلاء لوضع خطط ورسم سياسات عمل الجيش وتحديد من على الجيش أن يعمل معه أو من عليه الابتعاد عن التنسيق معه أو تحديد كيف عليه أن يعمل ومتى وأين؟
لقد تسبّب التدخل السياسي في عمل الجيش خلال الفترة القريبة التي سبقت انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، بمآسٍ لا زال الجيش يتجرّع مراراتها بوجود مخطوفين من عناصره بيد التنظيمات الإرهابية التي على رأسها داعش التي تخفي أثر تسعة من الجنود. وتتحصّن اليوم في بقعة من الجرود اللبنانية في القاع ورأس بعلبك تتجاوز مساحتها 120 كلم مربّع ينتشر فيها أكثر من 450 مسلحاً، وهي البقعة التي على لبنان استكمال تطهيرها بعد أن طهّرت منظومة المقاومة والجيش اللبناني والجيش السوري جرود عرسال بمساحة تقارب ما ذكر.
إنّ التدخل بشأن الجيش وبشأن عملياته المرتقبة في تلك الجرود لتطهيرها يُعتبر أمراً بالغ الخطورة، ويخشى منه على الجيش في سلامته وفي سلامة المهام التي يقوم بها، وبالتالي لن يكون مسموحاً من أحد أن يتدخل في خطط الجيش وقراراته الميدانية العسكرية. فالجيش يعرف ماذا يريد وكيف ينفذ مهامه المطلوبة منه، وخاصة أنّ في قيادته اليوم رجلاً ميدانياً محترفاً ومشهوداً له بالالتزام الوطني وشجاعة القرار بالمواجهة، أما إظهار الدعم للجيش مع رسم خطوط حمر له تقيّده، فإنه أمر غير مقبول وسيكون مسيئاً حتى الخطورة القصوى إذا تطوّر هذا الدعم المشروط إلى حدود تصل إلى تعيين كيف يعمل؟ ومع مَن يعمل؟ ومتى يعمل؟ كما حصل في العام 2014.
إنّ مهمة تطهير جرود رأس بعلبك والقاع من إرهابيّي داعش، ورغم أنها في ظروفها اليوم قد تبدو أسهل من مهمة تطهير جرود عرسال التي أُنجزت، لكن الميدان لا يُؤمَن له، وتُرتقب المفاجآت دائماً منه، ولهذا كانت القاعدة العملانية الذهبية التي تقول إنّ «على القائد العسكري أن يتصرّف على أساس الفرض الأسوأ» وأن يحشد كلّ ما أمكنه من قدرات ويزجّها في الميدان، مع الاحتفاظ بالاحتياط اللازم ليخفف من أثر المفاجآت، إذا حصلت ويخفّض من حجم التضحيات والخسائر التي قد تفرض عليه.
وإذا عطفنا ذلك على واقع الجيش اللبناني ومهمّاته الجسام الملقاة على عاتقه في الأرض اللبنانية كاملة من الشمال الى الجنوب، فضلاً عن المهمات الخاصة المطلوبة منه إنْ لجهة تطويق بؤر التوتر والملاذات الآمنة للخلايا الإرهابية أو لجهة العمليات الاستباقية الواجب القيام بها، ثم حللنا الموضوع لجهة انعكاس انشغال الجيش في جرود رأس بعلبك لفترة قد تطول وانعكاس ذلك على الوضع الأمني في الداخل، فإننا نصل الى استنتاج قاطع بأنّ الحريص على الجيش يكون حريصاً عليه في الوجوه كلّها، في وجوده وبنيته، وفي نجاحه في مهماته كلّها، وفي عدم المسّ بقدراته وتوريطه بمهمات تستلزم منه تضحياته أكبر وتفرض عليه تحمّل خسائر أكبر، وليفهم مَن يعنيه شأن الأمن في لبنان أنه ممنوع أن يجرّ الجيش الى استنزاف في أيّ مكان من شأنه أن يؤثر على مهماته الوطنية الواسعة.
إنّ ثقتنا بجيشنا الوطني الذي أعيد تنظيمه على أساس عقيدة عسكرية وطنية حمته من الضغوط والتحديات كلها، هي ثقة لا تحدّ، ومع ذلك فإنّ هذه الثقة الكبيرة ليس من شأنها ان تدفعنا للمغامرة بالجيش بشكل يثقل الأعباء عليه في وقت يستطيع فيه أن يصل الى مبتغاه بكلفة أقلّ وبوقت أقصر، وانّ الذين يرفضون ذلك ليسوا في أيّ حال من محبّي الجيش والحريصين عليه، بل إنهم كما يثبت تاريخهم القريب والبعيد من أعداء الجيش الذين يجب أن لا يُصغى إليهم في موقف ولا يُسمع لهم في اعتراض.
وعلى هذا الأساس، فإننا وحرصاً على الجيش، وحرصاً على الأمن والاستقرار في لبنان كلّه، وحرصاً على نجاح الجيش في مهمته المرتقبة، والتي باتت أمراً حتمياً ملحاً لا مناصّ من تنفيذها، فإننا ندعو إلى عمل ميداني تكاملي بين الجيش اللبناني والجيش السوري والمقاومة للإطباق على ما تبقى من إرهابيّين في جرود القاع ورأس بعلبك، في مرحلة أولى، ثم الانتقال وبسرعة وفي إطار منظومة لبنانية سورية منسّقة الى معالجة أمر مخيمات النازحين السوريين في تلك المنطقة بما يؤمن كرامة النازح السوري وسلامته وأمن لبنان واستقراره، وكفانا تلاعباً بالمصالح الوطنية من أطراف مرتهنين للخارج، مكلّفين بممارسة شتى ضروب العداء للمقاومة والعداء لسورية، حتى ولو كان لبنان كله يدفع ثمن هذا العداء المدفوع الثمن.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية