العقوبات الأميركية على روسيا: الأستبلشمانت والدوائر الثلاث
حسن شقير
على أعقاب اجتماع ويلز للدول الأعضاء لحلف الناتو في أيلول من العام 2014، تبيّن أنّ الغزوة التي يُعدّها هذا الحلف للمنطقة بقيادة أميركا، لم تكن سوى محاولة مكشوفة منها للالتفاف على تلك الانعتاقة الروسية من نير بريجنسكي الذي فصّله لهذه الدولة، بحيث إنّ هذا الأخير كان قد رسم خريطة طريق لسياسة موسكو المستقبلية، لما بعد العام 2009، وذلك على خلفية رؤية، خطها بيده، في مجلة «فورين أفيرز» الأميركية، والتي جاءت تحت عنوان «أجندة جديدة للناتو نحو شبكة أمن عالمية» والتي نُشرت بتاريخ 09-10-2009، وطُرحت على هامش اجتماع الدورة الستين لدول الحلف في حينه…
بطبيعة الحال، فإنّ الانعتاقة الروسية لما كان يأمله بريجنسكي، أدّت في ما أدّت إليه إلى فرض عقوبات ثلاثية الأبعاد على روسيا، ثأرية بسبب الفشل الذريع لخطة بريجنسكي بجعل روسيا ملتحقة بالسياسة الغربية… ناهيك عن فشله برؤية روسيا تستعيض عن علاقاتها الاقتصادية بدول الناتو، وذلك من خلال تنويع علاقاتها مع منظومات دولية أخرى كـ «بريكس» و»شنغهاي»… بحيث إنه اعتقد أيضاً، بأنّ العلاقة الروسية مع الناتو ستكون «مُلزمة ومُجزية للطرفين»، هذا فضلاً عن انعتاقها – أيّ روسيا – من الالتحاق الأمني بدول الحلف تصريح ميركل في آذار من العام نفسه ، وهي أيضاً عقابية، بسبب ضمّها شبه جزيرة القرم، والتدخل في أوكرانيا… فضلاً عن أنها إعاقية، وذلك من خلال الاستثمار بالحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط، وتشكيل التحالف الدولي لمحاربته، وجذب الدول التي تعاني منه نحو اتفاقات أمنية واقتصادية مع أميركا والحلف الأطلسي، وذلك كان ضمن خطة لمنع روسيا للعودة إلى المنطقة والعالم كقطب دولي ينافس أميركا والناتو فيها، وليست ملتحقةً بهما..
من هنا، فإنّ الصراخ والعويل الغربي، والذي حدث، بعيد انطلاق السهم الروسي في سورية، متوعّداً بالقضاء سريعاً على الإرهاب… كان من أسبابه المباشرة، وقوع التعاكس والتضادّ بين استراتيجيتي روسيا وأميركا في الأهداف والمحدّدات التي انطلق منها، كلّ من هاتين الدولتين.
ـ في الدائرة القطبية: لا أحدٌ في هذا العالم يجادل بأنّ أميركا، بُعيْد حربيها على أفغانستان والعراق، والأزمة المالية التي أعقبتهما، قد أُثقِلَ كاهلها، وجعلها تعود مع باراك أوباما في العام 2008 لتنتهج سياسةً أقلّ ما يُقال عنها بأنها تراجعية، وقد تجلّى ذلك في السياسات التي سارت بها، ما بين الفترة الفاصلة بين نهاية عهد بوش الإبن وبداية عهد أوباما، وحتى انطلاق ما سُمّي بالربيع العربي في نهايات العام 2010، بحيث وجدت في التطوّرات التي حلّت معه في المنطقة، ضالتها، لإعادة إنعاش نظام الأحادية القطبية، فكان الإرهاب والاستثمار بمحاربته حصان طروادة في تفعيل الربط الأمني والسياسي، وكذا الاقتصادي في كلّ تلك الدول التي حلّ بها.
أما روسيا، فإنّ دخولها من الباب العسكري والأمني ذاته لمحاربة الإرهاب في المنطقة، فإنه يهدف إلى العودة بقوة إلى المسرح الدولي، وتقديم النموذج الأمني والعسكري الفعّال في محاربة الإرهاب، لكلّ تلك الدول التي التحقت أو هي في طور الالتحاق بالتحالف الدولي التي تقوده أميركا… فروسيا – الممنوع عليها الفشل في سورية – تريد أن تُوهّن النموذج الأميركي وتعرّيه فعلاً لا قولاً… مما سيجعل لاحقاً من البيئة السياسية الشرق أوسطية، أكثر تحرّراً وانعتاقاً من الانقياد الأعمى خلف الأميركي… لتتجسّد حينها عودة روسيا كقطب دولي مركزي له جاذبيته وإنجازاته..
ـ في الدائرة المصلحية: وبناءً على ما آلت إليه أحوال أميركا في تلك الفترة التي سبقت ورافقت «الربيع العربي»، فلقد انصبّت عقيدة أوباما العسكرية في حينه، على التخفّف من الالتزامات الأمنية المباشرة للحلفاء، وتحديداً الكيان الصهيوني، وعليه فإننا وجدنا في كلّ استراتيجيات الأمن القومي الأميركية – من أولها في عهده أيار 2010 وحتى آخرها شباط 2015 – بأنها تُشجّع على قيام الأحلاف في المنطقة، وذلك لتحقيق هدفين جوهريّين، أحدهما يخدم الكيان الصهيوني بدمجه مع دولٍ عربية ضمن ما سُمّي بـ»الشرق الأوسط الكبير»، مقابل محور الممانعة فيه، والآخر يخدم مصالحها الاستراتيجية في بلسمة جراح الأحادية القطبية، وذلك من خلال لعب دور المايسترو على طرفي نقيض…
لأجل ذلك، كانت الحرب الأميركية المشتهاة، بطول أمدها على الإرهاب في المنطقة، نقطة تلاقٍ بين أميركا والكيان الصهيوني وبعض الدول العربية، فضلاً عن تركيا.. بحيث أنّ ذلك يخدم هؤلاء جميعاً، وكلّ بحسب غاياته وأهدافه، والتي تقاطعت عند استنزاف دول وأطراف المحور الآخر.. ولعشراتٍ من السنين.
أما روسيا، فقد كان للتصريح الذي أدلى به بوتين، بُعيْد أقلّ من ساعة من إعلان الاتفاق النووي في فيينا في الرابع عشر من تموز 2016، حول وجوب انعكاس هذا الاتفاق على «محاربة الإرهاب في المنطقة»، فقد كان يؤشر إلى أنّ ساعة الحساب الممانِعة مع الإرهاب، ومن خلفها الروسية، قد حانت في ذاك اليوم، خصوصاً أنّ روسيا كانت تنتظر إيران القوية والمرفوع عن كاهلها سيف العقوبات الدولية، والتي أرهقت اقتصادها، والتي كان كثر في هذه المنطقة يجهدون لأن تبقى، هي وسورية وكافة الأطراف الممانعة في مربع الاستنزاف المديد، وبالتالي ستكون روسيا أوّل الخاسرين جرّاء ذلك، فلطالما كان الصراع في سورية، متجسّداً بين الدولة، ومشاريع الدويلات فيها…
لأجل ذلك فإنّ التحرّك الروسي الجادّ في سورية لمكافحة الإرهاب، هدف أولاً إلى خلاص حلفائها في المنطقة من براثن الاستنزاف حليفٌ قوي خيرٌ من حليفٍ مستنزف ، وثانياً لتثبيت الدولة القِطرية في المنطقة بمجملها…
ـ في الدائرة الاقتصادية: لقد شكل موضوع مكافحة الإرهاب بالنسبة لأميركا في المنطقة، عاملاً حيوياً في تعافي الاقتصاد الأميركي، ومعه الغربي، خصوصاً أنّ هذه الحرب أضحت سلاحاً في خدمة المجمعات الصناعية والعسكرية في الغرب، لا بل إنّ الفترة المديدة المنشودة أميركياً لمكافحة الإرهاب فيها جعلت من مصادر الطاقة ومواردها، ركيزةً أساسيةً في مواجهة الصحوة الروسية في العالم، وخصوصاً في المنطقة، ذلك لأنّ السيطرة السياسية على هذه الأخيرة، ستجعل من مصادر الطاقة الحالية فيها، وتلك التي لا تزال مختزنةً في تراب وأعماق بحار دولها، مفتاحاً رئيسياً لإنعاش أو وأد هذا النظام العالمي الأحادي الحالي أو المتعدّد الأقطاب المنشود مستقبلاً… وعليه فإنّ الكباش الأميركي – الروسي على هذه المسألة، لهو مسألة حياة أو موت لكليهما، وتحديداً لروسيا، فكيف ستكون عليه حالها، فيما لو سيطرت أميركا على هذه المصادر في الشرق الأوسط برمّته، وذلك من البوابة السورية بالتحديد.
خلاصة القول، لا يمكن فهم العقوبات الأميركية المتجدّدة لأميركا – ترامب اليوم، وبغضّ النظر عن «امتعاض» هذا الأخير منها، إلاّ من خلال معادلة الأستبلشمانت في هذه الإمبراطورية، والصورة التي يرسمها لـ «روسيا – الأميركية»، وليس لروسيا الندية، في فسيفساء النظام الدولي الجديد في العالم.
باحث وكاتب سياسي