ثبات الاتفاق «مقدّمة» لما سواه
روزانا رمّال
تلعب الدائرة السياسية الأوروبية دوراً مباشراً في تعزيز السياسة الأميركية بالشرق الأوسط. وهي الوحيدة القادرة على تزخيم الخيار الأميركي بالمنطقة نظراً لموقعها ضمن النطاق الجغرافي الذي يُحيط بدول حوض البحر المتوسط، حيث يرتفع منسوب التوتر، وتشتعل القضايا الكبرى كالقضية الفلسطينية، التي تشكل الملف الاول في صناعة أدوار اللاعبين الإقليميين، تليها ازمات تفرعت انطلاقاً من حسابات الاحتلال «الإسرائيلي» المكرس لسنوات كمرجعية غربية في اعتماد «الموقف» في المنطقة منها الازمة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية الموضوعة ضمن اطار «نووي» – بينما هي أبعد من ذلك -، وصولاً إلى الأزمة السورية التي كشفت عن قدرة فريدة لموقع سورية انقسم عبرها العالم السياسي لأقطاب ومحاور عمودية كقضية مركزية دولية لسنوات، وقبلها اجتياح العراق وافغانستان ليصبح وجود واشنطن في المنطقة مرهوناً بدعم الحلفاء الأوروبيين والعرب الأقرب منها الى مواطن الصراعات جغرافياً، وذلك نظراً للحاجة المباشرة لتنفيذ الأجندات الأميركية بأذرع مختلفة.
الحديث عن الاتفاق النووي الإيراني كان في مرحلة من المراحل «مستحيلاً» بالنسبة للمراقبين الذين لم يقتنعوا بأن الأميركيين سيتنازلون في «مكان ما» للخيار الإيراني في إيجاد حل «وسط» لتخريج اتفاق يضمن للطرفين الموافقة على توقيع معاهدة يمكن تسويقها للغرب وللداخل الإيراني على حد سواء. فالخيار الأميركي المتشبث بدعم «إسرائيل» لم يفتح أفق التنازل من اجل العبور الى مرحلة تفاهمات مع إيران، فكيف بالحال اذا كانت طهران أكثر الدول التي تشكل منافسة جدية للدول الخليجية؟
الموقف الأميركي من الاتفاق قبل توقيعه وبعده وقع ضمن التجاذبات الشكلية أكثر منه التجاذبات الجدّية بين المسؤولين الأميركيين الذين وإن وجد البعض فيه اعترافاً بالقوة الإيرانية شرق أوسطياً إلا أنه، وبالوقت نفسه شكّل حاجة أميركية مباشرة لم يعد ممكنا التخلي عنه. والدليل أتى في أدق المحطات التي خضع فيها التلويح بنسف الاتفاق لاختبارات حساسة، كمرحلة انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة الأميركية وعد سلفاً أنه سيمزق الاتفاق كدونالد ترامب، بعد ان كان الاتفاق إحدى ادوات رفع اسهم المرشح الأميركي او تخفيضها. فالمرشحة هيلاري كلينتون وعدت بإعادة النظر فيه من جهتها رغبة بإرضاء فئة «إسرائيلية» تسيطر على الناخب الأميركي، هي نفسها التي حاول ترامب إرضاءها في آخر لحظات الاستحقاق. الاختبار الآخر الذي تخطاه الاتفاق والذي يعتبر مؤشراً كبيراً جدا لرغبة واشنطن بالمحافظة عليه هو أن الرئيس ترامب لم يسحب توقيعه عن التجديد بالعمل فيه الشهر الماضي، رغم أنه كان عائدا من زيارة قريبة ومنتجة جداً وصفت بالتاريخية بين بلاده والرياض أثمرت أكبر صفقة مالية دولية قاربت الـ 450 مليار دولار كان يفترض ان تكون كلها أموال كافية لإخضاع الأميركيين لرغبة الرياض او الدول الخليجية التي تعتبر حليفاً جدياً للولايات المتحدة في التخلي عن الاتفاق مع إيران الذي تكفل بإعلاء المنطق الإيراني في الخليج والذي يكرّس طهران جهة أساسية بالمفاوضات السياسية المقبلة على المنطقة.
وحدها الملفات المتشابكة التي تستحوذ عليها السياسة الإيرانية والتي تقع بكلام او بآخر ضمن دائرة نفوذها شرق اوسطياً، هي التي أخذت واشنطن نحو هذا التنازل للإيرانيين بالتوصل الى اتفاق إطار لحل الملف معهم. وهو ما يكشف ان الملف النووي لم يكن هاجساً عند الأميركيين بل بات حجة أساسية لفتح باب الحوار مع إيران من أجل البحث في الملفات المشتركة بين البلدين والتي لا يمكن حلها من دون إيران، حسب الاستنتاج الأميركي الأخير الذي بنت على اساسه مواقف سياستها الخارجية منها، وهي الملفات المباشرة التي تعني واشنطن وتحدّد مصير وجودها في المنطقة كافغانستان والعراق واليمن وسورية ولبنان، إضافة الى وجود نفوذ إيراني في الخليج يعود لارتباط أو تأييد لمعارضات شعبية بدول الخليج. وهو الأمر الذي لا تنفيه إيران دعماً أو تأييداً لمطالبة اولئك بحقوق سياسية بعيدة عن فوضى إسقاط الأنظمة. كل هذا يجعل طهران وملفها مقدمة لوضع حجر اساس باقي الملفات العالقة بالتأكيد.
تؤكد مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمنية، فيديريكا موغيريني، أمس، بعد لقائها في طهران الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني أن الدعم الأوروبي للاتفاق النووي بين إيران والدول الست الكبرى هو دعم «حازم». وهو كلام مباشر يصب في خانة الاعتراف برغبة أوروبية بضرورة الحفاظ على الاتفاق. وهي رغبة يحيط بها الكثير من الأسئلة التي تصبّ إجاباتها كلها بماورائيات أميركية تشجع على هذا الخيار سراً لتترجم عبر مواقف الذراع الأوروبي الحليف، الاتحاد الأوروبي، وهو عراب الاتفاق.
يقول الرئيس روحاني من جهته «متباهياً» إن «الاتفاق النووي وإخراجه من الفصل السابع للأمم المتحدة وإلغاء الحظر هو من أهم الإنجازات»، مشيراً الى ان «تقاعس الولايات المتحدة عن تنفيذ التزاماتها في الاتفاق يبين عدم الثقة بها»، مؤكداً أن «إيران لن تكون الطرف البادئ في نقض الاتفاق النووي، لكنها لن تسكت عن نقضه من الطرف الآخر» قائلاً: «فليعلم من يريد تمزيق الاتفاق النووي أنه يُنهي حياته السياسية»، في إشارة منه الى ترامب.
يعرف روحاني تماماً ان اشارات الطمئنة الأوروبية ليست ارتجالاً في هذه المرحلة، بل هي مقدمة لتثبيت ما أنجز بعد سنة على نجاح الاتفاق بدون خروق تذكر من الطرفين، الأمر الذي يجعل نجاح الامتثال ببنود الاتفاق النووي مقدّمة لتثبيت باقي الحلول بالتعاون مع إيران وأخصها أو أقربها ملفا اليمن وسورية تباعاً.