قرار إعلان الحرب يسمو على الحرب ذاتها
عدنان كنفاني
نموت ألف مرّة ولا نستكين للهوان!
قد لا نملك أسلحة تمكّننا من تحقيق التوازن مع القوّة العسكرية الباغية، لكننا نملك الإرادة، وهي أداة الانتصار الأكثر فعّالية.
التاريخ يذكر كم من الحملات الغازية مرّت على بلادنا دمّرت الأخضر واليابس، أين هي الآن؟ اندثرت، وعادت خائبة إلى جحورها، ونحن بقينا، شعباً ولغة، سماءً وأرضاً، تاريخاً وحضارةً.
لا أحد يستطيع كسر إرادة الشعوب، ففي يوم السادس من تشرين الأول 1973 وقف العالم مذهولاً أمام حدث لم يكن في حسابات المنظّرين والاستراتيجيين، إذ كيف تستطيع أمّة أن تنهض من قلب ركام هزيمة محقت أخضرها ويابسها، وألحقت بها في ساعات معدودات، في الخامس من حزيران 1967 هزيمة عسكرية ساحقة، توّجت سلسلة هزائم متلاحقة، بدأت باغتصاب جزء من أرض فلسطين في عام 1948، وانتهت «من دون أن تنتهي» مع عدوان حزيران 1967 باستكمال احتلالها لأرض فلسطين كلّها، ومساحات من سورية ومصر ولبنان.
حرب صاعقة تكالبت قوى الشرّ في التخطيط لها وتمويلها وتنفيذها في حزيران 1967، تهيأ لمرتكبيها أنهم فتحوا بانتصارهم بوّابات كل العواصم العربية، ضربة ماحقة قدّرت أدمغة المختصّين أن لا نهوض بعدها، فهل تحقّقت أحلام الطغاة؟
في السادس من تشرين الأول 1973 ذلك اليوم الأغّر، وفي الساعة 14,00 أطلق الرئيس حافظ الأسد كلمته الرصينة المقتضبة، التي توجّه فيها إلى الشعب وإلى القوات المسلّحة، خاطب ضميره وتاريخه: «يا أحفاد خالد وطارق وعلي وصلاح الدين…».
وأوصلت إلى العالم رسالة واضحة قال فيها: «إننا نعمل من أجل السلام لشعبنا ولكل شعوب العالم، وندافع اليوم من أجل أن نعيش بسلام…».
واستطاعت القوات العربية «المصرية والسورية» بتنسيق كامل، اكتساح خط «بارليف» وعبور القناة على الجبهة المصرية، وتدمير خط «آلون» على الجبهة السورية، وهما خطّان دفاعيان يشبهان من حيث التسليح والتحصين والقوّة والمنعة خط «ماجينو» الذي أقامته فرنسا على حدودها في الحرب الكونية الثانية، واستطاعت القوّة العربية خلال الساعات الأولى من الحرب أن تدمّر ثلث القوّة العسكرية «الإسرائيلية».
يقول اللواء الركن سامي الخطيب: «قرار حرب تشرين في هضبة الجولان وعلى قناة السويس أفقد القيادتين العسكرية والسياسية «الإسرائيليتين» صوابهما وتوازنهما، والطرق التكتيكية التي استعملها الجيش السوري ببراعة مدهشة أدّت إلى شلّ القوات المعادية ومنعت الطيران «الإسرائيلي» من إعاقة تقدّم القوّات البريّة السورية في الجولان، ووصلت طلائعه إلى مياه طبرية».
لقد اصطلح على إطلاق تسمية «حرب تشرين التحريرية» على تلك الحرب، وهو يشير بعنوانه العريض إلى تحرير أرض لنا مغتصبة ومحتلّة، وهي أهداف مشروعة تقرّها كل الشرائع والقوانين السماوية والبشرية، وهذا الإطلاق أشار إلى حقيقة أخرى أكثر أهميّة، وهي قدرتنا كشعب متجذّر، أن نواكب متطلّبات العصر، وأن نهضم أرقى التكنولوجيات ونتقن التعامل معها بامتياز.
وقد أصبحت حرب تشرين منذ عام 1973 موضوعاً أساسياً يدرّس في الأكاديميات العسكرية في العالم، لا كحرب تقليدية من حروب القرن العشرين، بل كحرب قومية لها أبعادها التاريخية المتّصلة بجذور الأمّة وتراثها الفكري والحضاري والعسكري، وللمرّة الأولى في تاريخ الحروب يتفوّق قرار إعلان الحرب على الحرب ذاتها.
إن قرار الحرب الذي أطلقه الرئيس الراحل حافظ الأسد قرار شجاع، ولمّا يزل عمر قيادته السياسية لم يبلغ السنوات الثلاث بعد، معتمداً على إيمانه الكبير بعظمة الأمّة، من هذا المنطلق نقول إن قرار الحرب شكّل بمعانيه ومدلولاته انتصاراً ليس له مثيل.
كانت الحرب حدثاً استثنائياً أذهل العالم وهو يرى ويسمع، ولا يكاد يصدّق، بأن أمّة تتالت عليها الهزائم على النحو الذي كان، لن تكون قادرة على الوقوف ثانية قبل قرن من الزمن على أقل تقدير، ولم يخطر على بال أقدر المحلّلين السياسيين والاستراتيجيين والعسكريين أنّ ست سنوات فقط على هزيمة مرّة وقاسية، يمكن أن تنقل أمّة كاملة من أقصى زوايا الهزيمة النكراء عسكرياً واقتصادياً وما تولّد بسببها من مشاعر الإحباط ونفض الانتماء والإحساس بالمهانة، لتتصدّر فجأة، في السادس من تشرين الأول 1973 واجهة الأحداث، وتنهض بزخم لا يوصف حاملة أرضها وشعبها وتاريخها، صارخة فوق مساحة العالم بأننا هنا باقون وسنبقى على رغم أنوف الطامعين.
إن حرب تشرين التحريرية أحدثت زلزالاً في قلب الكيان الصهيوني المصطنع في فلسطين المحتلّة هزّه من الأعماق، وأثبتت للعالم أجمع أن الحق العربي لا يمكن أن يموت.
يقول العماد أول مصطفى طلاس وزير الدفاع وقتذاك: «في حرب تشرين تجلّت ثقة الإنسان العربي بنفسه، وبقدراته، كما سقطت نظريّة التفوّق «الإسرائيلي» المزعوم، والحدود الآمنة…».
لقد بترت حرب تشرين غرور وأطماع طالبي التوسّع، وأنهت إلى الأبد أسطورة الجيش الماراثوني الذي لا يقهر ولا يهزم، وأسقطت خيالات قادته، وجعلتهم من حيث المبدأ، يقبلون صاغرين بالتفاوض.
إرادة الشعوب لا تقهر، ندرك من خلاله أننا أمّة لا تستكين لظلم، وقادرة على التجدّد، وستطوي مثلما طوت خلال تاريخها الطويل، كل المارقين.
لقد أذكت حرب تشرين روح النضال الوطني والقومي… ولو أنها تعثّرت في طريقها لتحقيق أهدافها ومراميها لأسباب أصبحت معروفة، إلا أنها حرّضت وأرست وأسّست نواة تحرير الجنوب اللبناني، وأشعلت فتيل انتفاضات متواصلة لأهلنا في فلسطين لا بد أن تتوّج بنصر أكيد مؤزّر.
وتحيّة إلى أرواح الشهداء الأبرار، الذين عمّدوا بدمائهم تراب الوطن الغالي.