هل للأزمة الخليجية علاقة بالحرب بين قوى الإرهاب في سورية؟
د. وفيق إبراهيم
تندلع اشتباكات حادّة بين قوى تكفيرية محسوبة على المثلث التركي القطري السعودي في الغوطة الشرقية من أرياف دمشق بالتزامن مع حدثين الخلافات القطرية مع السعودية وحلفائها حول اتّهامات متبادلة بينهما بتمويل الإرهاب، ومحاولات الرياض إعادة تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات «السورية» على نحو موالٍ لها بشكل كامل.
وهكذا يتبيّن أنّ السياسة الأميركية التي نجحت في منع أيّ تطوّر عسكري للنزاع القطري السعودي في الخليج، لم تتمكّن من منع «الأدوات السوريّة التكفيرية» لقوى الصراع الخليجي من إعلان الحرب الضروس على بعضها بعضاً بشكل متدحرج بدأ في الغوطة الشرقية، ولن ينتهي فيها.
هي إذن «حرب إقليمية» موصوفة وواضحة، تجتاح المدن والقرى وتقتل المدنيين لأسباب خاصّة بمموّليها ورعاتها الإقليميين الباحثين عن زعامة إقليمية أصبحت «مستحيلة» بعد الانتصارات الكبيرة التي حقّقها كلّ من الجيش العربي السوري والمقاومة وحلفائها، والجيش العراقي والحشد الشعبي بدعم إيراني وروسي.
لتبيان هذه العلاقة، يكفي القول إنّ فصيل «جيش الإسلام» السعودي حتى الأسنان «إيديولوجية وتمويلاً»، استطاع استقطاب «فيلق الرحمن» الذي كان يُعتبر جزءاً من الجيش الحرّ المزعوم، وأصبح بقدرة قادر من جماعة الرياض، إلى جانب عشرات التنظيمات المرتبطة التي تميل حيث يميل الدولار والتوازنات العسكرية واتّجاهات الريح.
وتصطف إلى جانب تركيا، «هيئة تحرير الشام» المتسلسلة بقدرات أميركية تركية من «جبهة النصرة» المتحدّرة بدورها من منظمة «القاعدة»، ومعها «جبهة أحرار الشام» وعشرات التنظيمات الصغيرة التي تجذب إليها سوريين من أصول تركمانية.
هذان الفريقان يتقاتلان حالياً في الغوطة الشرقية لدمشق بأنواع الأسلحة الثقيلة كلّها، من دون ذكر الأسباب الموجبة.. هل هو قتال موضعي على النفوذ في هذه المنطقة تحديداً؟ أم أنّه قتال على قيادة فصائل المعارضات التكفيرية في سورية؟! ولعلّه لغايات مرتبطة بالصراعات الإقليمية، لسبب أساسي، وهو أنّ هذه التنظيمات تعيش بتمويل كامل من الطعام والسلاح والرواتب من قوى إقليمية تتصارع لاحتكار أدوار إقليمية في مراحل يتراجع فيها النفوذ الأميركي في العالم الإسلامي وجنوب شرقي آسيا وأميركا الجنوبية. لذلك يستطيع المحلّلون أن يعتبروا هذه التنظيمات مجرّد أدوات صغيرة لتحقيق المشاريع السياسية لقوى الإقليم…
وهذه الأخيرة تحاول الاستئثار بالدور في سورية، إنّما من ضمن مصالح القطب الأميركي الأعظم، لأنّ مَن يخرج عن «الدور» رافعاً من منسوب «مصالحه السياسية» يصبح قابلاً للعقاب، كما حدث بين واشنطن وأنقرة التي لا تزال تدفع ثمن مشاريعها العثمانية و»الإخوانجية».
كيف بدأ الخلاف بين قوى الإقليم التي كانت متحالفة وأصبحت متجابهة على المستوى العسكري؟
قبل نصف عقد تقريباً، نسّقت الولايات المتحدة الأميركية «جهادية إرهاب عالمية» أمرت حلفاءها في السعودية وقطر وتركيا والإمارات بتأمين مستلزمات حرب كاملة لإسقاط النظام السوري، فانفتحت الحدود للإرهابيين من تركيا والأردن ولبنان والعراق، وجرى ضخّ كميّات من المال أدّت إلى جذب سوريين فرّوا من أدوارهم السياسيّة والعسكرية إلى.. الإرهاب.
بدت الرياض كقائد أوركسترا الإرهابيين مع أدوار تركية قطرية وإماراتية أقلّ حيويّة، حتى اعتقد المعنيّون أنّ السعودية هي الآمر الناهي في الميدان السوري بالتحالف النسبيّ مع قطر وتركيا… لم تكفِ مليارات الدولارات والأسلحة المتدفّقة كسَيل العَرم من أوروبا الشرقية وكوريا الجنوبية، ومئات آلاف الإرهابيين الآتين من كلّ أنحاء الأرض لإسقاط الدولة السوريّة، لجعلها أداة سعودية أميركية إسرائيلية. فتحوّل المشروع إلى إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد… بتزخيم الدعم التمويلي والعسكري إلى حدود غير مسبوقة في التاريخ، مع السماح للإرهاب بإلغاء معاهدة سايكس بيكو 1917، وفتح الحدود السوريّة العراقية لتشكيل «خلافة موحّدة» لـ «داعش» على أراضٍ متّصلة بين البلدين، لكنّ حزب الله حال دون توظيف الحدود اللبنانية على النحو نفسه، متمكّناً مع الجيش السوري بإسناد كبير من القوّات الروسيّة والإيرانية إلى جانب المنظمات اللبنانية والإقليمية من إسقاط مشروع إسقاط النظام السوري ورئيسه البشار.
وتتالت الهزائم في القلمون الغربي وحمص وحماة وحلب والبادية وتدمر… إلى الموصل أمّ الربيعين، فانكمش الإرهاب على نحو مريع، وبدا كأنّه دخل في خريف عمره، ما يحتّم الاستفتاء عنه من قِبل مموّليه ومشغّليه لاستبداله بآليات ترتدي شكل المرحلة الجديدة، أي سقوط مرحلة القتال للفوز بالمشروع إلى مرحلة التفاوض لكسب حصّة منه.
وهنا حدثت الكارثة.. لقد اكتشف آل سعود أنّ دورهم في سورية هامشيّ لا يرقى إلى نفوذ دولة قطر، ويقبع ذليلاً أمام الدور التركي المحوري، فصُعقوا عندما تبيّنوا أنّ ملياراتهم ذهبت لتأسيس دور إقليمي لتركيا وقطر بوسيلتين الأولى هي أنّ المنظّمات المدعومة من المحور التركي القطري أكثر «سوريّة» من تلك المسنودة من الرياض والآتية من أصقاع الصين وباكستان وأفغانستان والشيشان، إلى جانب قلّة من السوريين. كما اتّضحت لهم أهميّة إمساك تركيا بالحدود السياسية مع سورية والعراق بطول يزيد عن ألف وثلاثمئة كيلو متر، ما منحها أهميّة مضاعفة على قوى الإرهاب، فأمسكت بمعظمها بأهميّة الحدود والتدريب والتغطية والرّعاية وأموال آل ثاني القطريين…
فاعتبرت الرياض أنّ تركيا وقطر «ضحكتا عليها»، بالمفهوم العاميّ للتعبير… استعملتا أموالها والتغطية الإيديولوجيّة للحرمين الشريفين والقراءة الوهابيّة للإسلام، من أجل تعميق الدورين التركي والقطري في سورية والعراق.
وما زاد من الاكتئاب السعوديّ، بدء هزيمة مشروع السعودية في اليمن، وحاجتها إلى نحو ست قوى للدفاع عن محميّتهم البحرين في مساحة لا تزيد عن 500 كيلو متر مربع في الجزيرة الأساسية، وهي القاعدة الأميركية، القاعدة البريطانية، القاعدة المصرية «قيد الإنجاز»، قوات مجلس التعاون الخليجي، الدرك الأردني، قوات سعودية خاصة وقوّات دولة البحرين.
فإذا كانت السعودية بحاجة إلى كلّ هذه القوى للدفاع عن «بحرينها»، فكم تحتاج للدفاع عن السعودية نفسها؟!
يتبيّن بالاستنتاج، أنّ السعي السعودي لإعادة تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات «السوريّة»، وذلك بالدعوة إلى اجتماع في الرياض في 15 آب الحالي، إنّما يرمي لطرد الأعضاء المحسوبين على قطر وتركيا، أو للتخفيف من أحجامهم الكبيرة، وذلك في محاولة سعوديّة لإعادة التموضع «من فوق»، وليس من خلال الميدان السوري.
كما يتّضح أنّ الخلاف السعودي الخليجي مع قطر وتركيا على علاقة بالدور العربي والإقليمي. فالسعودية بحاجة إلى هذين الدورين لحماية نظامها من تداعيات انكساره في سورية والعراق ومراوحته في اليمن، وما تخشاه هو انتقال هذا الانكسار إلى الخليج المتفلّت من جهة دولة قطر التي تبحث عن زعامة خليجية وإسلامية، وتركيا المصرّة على أدوار إسلامية ودولية.
تتزامن هذه المعطيات مع بدء تحوّل استهلاك الطاقة من النفط إلى الغاز، ما يرفع من الحجم السياسي للدول الممتلكة للغاز مثل قطر وإيران وروسيا، مقابل تراجع أهميّة الدول النفطية كالسعودية مثلاً..
لذلك يحاول آل سعود العودة إلى سورية من خلال وسيلتين الهيمنة على «الهيئة العليا للمفاوضات السوريّة»، والسيطرة على مناطق خفض التوتر في الغوطة الشرقية، ما أدّى إلى نشوب حرب بين التنظيمات الموالية لها والقوى الإرهابية المحسوبة على قطر وتركيا.
هذه هي المعطيات التي تؤكّد ما هو مؤكّد، وهو أنّ الدولة السوريّة هي الوحيدة التي تقاتل من أجل وحدة سورية مقابل قوى الإقليم المتقاتلة فيما بينها وتحارب الدولة السوريّة، مقابل أهداف عدة هي حماية أنظمتها المتهالكة، تحقيق المشروع الأميركي، إنهاء القضية الفلسطينية وتفتيت المنطقة.