«أقدم المهن»… عرساً شيطانياً في شارع المتنبي
كارول جوزف جريج
لا أعلم إن كان يحقّ لي التحدّث عن التاريخ، وعن أقدم المهن التي مارستها البشرية في هذا التاريخ الطويل. هذه المهنة التي اعتاش عليها كثيرون من البشر على مّر الأزمان، والتي كانت مصدر رزق لهم إذا جاز تعبير «الرزق» هنا. ولكن، لا يمكننا أن ننكر أنّها كانت وما زالت تؤمّن ثمن رغيف الخبز الذي هو سبب الحياة.
رغم كل الأحكام المجتمعية التي تدين وتستنكر هذه المهنة وتعدّها من أحط المهن، وتعتبر من يمارسها أنّهم ينشرون الفساد في الأرض والمجتمع. وكم وكم من الباحثين والمفكرين وأهل الفكر والمعرفة حاولوا جاهدين أن يدخلوا إلى عمق هذه المهنة لمعرفة أسبابها ودوافعها وماهية الطريق التي تؤدّي بهؤلاء الأشخاص إلى اللجوء لهذه الصنعة المحكوم عليها بالانحدار إلى أدنى درجات الوضاعة الاجتماعية، لكنّ أيّاً منهم لم يستطع أن يعطي توصيفاً دقيقاً أو أسباباً مؤكّدة، تدفع بالشخص إلى مزاولة مهنة الدعارة.
ومن قبل هؤلاء المفكرين، استنفرت دول كثيرة كل قواها من أجل القضاء على ما تراه من المسبّبات التي تؤدّي بالفرد إلى الجنوح لممارسة الدعارة، فغاصت في تشخيص أسباب «المرض» التي تعدّدت وتشابكت. من دون أن تجد الحل المثالي لهذه الأسباب التي لطالما كانت موجودة في المجتمع ولم تزل قائمة إلى عصرنا هذا.
لقد أجمع الدارسون والباحثون على تنّوع دوافع هذ العمل والتي كثرت، حتى أصبح لكّل فرد يعمل في الدعارة سبب خاص به، فمنهم ما دفعه العوز والفقر المادي وتدهور الحالة الاقتصادية في مجتمعه إلى امتهان هذا العمل، ومنهم من كان يهرب من قهر اجتماعي في محيطه واضطهاد عاطفي نفسي، وآخر اضطرته الأوضاع السياسية الظالمة في بلده، التي كانت تقطع سبيل العيش عن الغالبية ولا تعطيها إلّا إلى قلّة قليلة حتى تضمن تبعيّة الغالبية إلى هذه السلطات من باب التجويع والقهر. ومنهم من هرب من واقع اضطهاد جسدي وروحي تحيط به من مجتمع ظالم يستمرق فيه الرجال استعباد النساء واضطهادهن في هذه المجتمعات الذكورية القاسية البائسة. وحزمة قد تكون كبيرة جداً من الدوافع والأسباب قد يطول تعدادها. ولكن، ضمن هذه المعركة القائمة ما بين أهل الفكر والدول من جهة، وما بين ممارسي هذه المهنة أو المهنة بحدّ ذاتها من جهة أخرى، ظهر أمامنا بعض من الكتّاب الذين في الحقيقة تجّرأوا وطرقوا باب البحث بعمق وبكل شفافية، واستطاعوا أن يغنوا تفكيرنا وخزائن فكرنا عن دوافع هذا العمل وأسبابه، موضحين السبب، آملين بأن يُصار إلى علاج ومداواة هذه الجروح التي تؤدّي إلى هذه الآفة الاجتماعية الخطيرة.
وهنا، ظهر أمامي كتاب طُرح في السوق حديثاً، للكتاب والباحث يحيى جابر، يحمل عنوان « شارع المتنبي… أعراس شيطانية»، الصادر عن «دار أبعاد للطباعة والنشر»، والذي حاول فيه الكاتب أن يسبر عمق هذه المهنة ويقف على مسبّباتها، ويطمح إلى العلاج من حيث إصراره على اقتحام هذا الموضوع، أبدى شجاعة كبيرة ولقد عبّر كتابه عن مصداقية واضحة ما بين نيّته في كشف المستور، وما بين رغبته الجامحة في القضاء على دوافع المرض. ولكن رغم اندفاعه الشديد ولهفته الظاهرة في فكفكة جزيئات هذا الهرم الكبير، لم يستطع للأسف أن يجتاز الشوط المطلوب في شرح التفاصيل والفواصل المهمة التي يُبنى عليها هذا البنيان. وبدلاً عن ذلك، استخدم الكاتب أسلوب السرد القصصي البسيط ليروي لنا حكاية فتاة شابة قدّر لها أن تجد نفسها في شارع المتنبي، وفق ما أورد الكاتب. بدل أن تكون رمزاً من رموز مقاومة الاحتلال والظلم كما الكثيرات مّمن شرّفن أهلهن ومناطقهن وبلداتهن، وكتب لهن في سطور التاريخ بأحرف من ذهب ما كتب.
فلقد انطلق الكاتب من بيت أبيّ مقاوم لا بل شديد المقاومة، وسرد وقصّ علينا كل تفاصيل الثبات والتجذّر والتمسك ودرء الظلم والاحتال بالصدور والأجسام العارية. ووضعنا في هذا الجوّ الحارّ الذي يستنفر المشاعر الوطنية الحارة التي ولا أعلم إذا كان تصّرفه مصيباً أن ينتهي بنا في شارع المتنبي، ناهيك عن عدم الترابط بين الأفكار، فتارة كنت ترى الفتاة مقاومة أبيّة شديدة البأس، وتارة أخرى تجدها ضعيفة لا تقوى عن التحدّث عن سوء حالها حتى إلى أقرب المقّربين لها. مّرة تجدها أدهى بنات بيئتها وأكثرهن جمالاً وفطنة، حتى تراها تُخدع من أحدهم هنا وهناك. حينا تراها تقطن في القطب فتضطرّ أن تجتاز الفيافي والقفار والصحارى الكبيرة حتى تصل إلى بيروت، ومرة تجد صديقنا يوضح لنا جغرافية هذه الطبيعة التي لا تبعد إلا بضعة ساعات عن بيروت.
عندما أنهيت قراءة الكتاب، توجّهت مسرعةً إلى بعض ما كُتب من بعض الكتّاب الذين سبقوه في هذا المضمار عن هذا الموضوع، لأجد نفسي أمام كتاب للكاتب باولو، لأرى أن البون شاسع ما بين السرد القصصي الذي أغرقنا فيه كاتبنا العزيز، وما بين عالم الرواية والغوص إلى عمق أعماق النفس البشريّة المضطربة التي تناولها الكاتب باولو في كتابه. رغم أن الدافع النبيل الذي أبداه كاتبنا، وحرصه الشديد على كشف المسبّبات التي هو طرحها كتساؤلات على نفسه وعلى القارئ في مقدّمته، إلا أنه من وجهة نظري لم يستطع الوصول إليها، ولم يدرك مدى فداحة الأسباب ومدى عمق الجرح.
لقد عهدنا من كاتبنا دائماً مصداقية بين كتاباته وبين ذاته وروحه. لذلك وقفنا عند هذا الكتاب لأنه لم يرتقِ إلى مستواه العالي وشأنه الفكري… ونتمنى أن نجد منه في المستقبل ما يرضينا ويرضي ذاته ورقي أفكاره ويرضي جموع قرّائه الكثر.