«أرواد» … شعبية الحكاية جعلت نصّها رائياً!
النمسا ـ طلال مرتضى
ليس خفيّاً على أيّ قارئ، أنّ بناء الشخصية في العمل الروائي هو اللبنة الأهم. فالمعلوم أن الحدث وحده أو إتقان مَلَكة السرد الغاوي، لا يكفيان لحمل مروية.
نعرف تماماً أن الحدث والشخصية اللذين يجترحهما الكاتب يسموان معاً ويرتقيان معاً، فهذا السمو وهذا الارتقاء يتشكلان نتيجة التفاعل والتعالق في ما بينهما، فنجد من خلال ما تقدم أن الشخصية تتطوّر تلقائياً وتتفاعل مع الحدث ومع أناها ثم مع قارئها أخيراً، لتجعل من الحدث في الرواية مثار جدل، يجعل القارئ بعدها من خلال ماهية السرد جزءاً تابعاً للمروية، هاجسه الأول الوصول إلى الخواتيم، للقبض على القفلات التي تملأ حواسه وتنعكس في داخله ـ أي القارئ ـ ردّ فعل تشاركياً بمعيّة إسقاط الحراك على أرضية ورق الرواية على ذاته، والتي قد تصير الشخصية الرئيسة والثانوية جزءاً كلّياً منه، وهي حنكة الكاتب الراوي العارف الذي يخلع عن بطله العباءة ويرميها على ظهر القارئ، ليجعله يصرخ بينه وبينه من دون ارتباك: هذا أنا وليس سواي… نعم هذا أنا!
وهنا الفرق والممايزة، حيث نتوقف كثيراً أوّل سطر الكلام، في محاولة لتجميع ذواتنا بمعيّة السؤال، هل ما نحن به حقيقة أم ضرب من كتابة فقط؟ فمن الطبيعي ومن دون ملام أن يترك القارئ سؤاله هذا في المطالع، ليس تذمراً أو نكران لحقيقة ما تركه الراوي، بل لأنه وصل إلى قناعة بأن الشخصية التي يعالقها الآن على الورق، ما هي إلا شيء مركب من عدّة خيوط لا دوالّ لها الدال والمدلول ولا انعكاس على الواقع، ولا تشي له أنّ وراء حبكتها ما يروي غروره كقارئ نهم!
فالسرّ هنا لم يعد سرّاً، لماذا؟
لا لشيء بالمطلق، فقط لأن القارئ استطاع منذ المطالع، الوقوف على المضمر المخبوء، وفكّ أكواده من دون عناء، وهذا ما يكسر العلاقة بيني كقارئ وبين الكاتب الذي أنتج شخصيات هزيلة، لم تكن في لحظة ما تقارب ما هو على أرض الواقع، أو حتى في أتون حلم عابر يمكن الاتكاء عليه لخلق تفاعل ما يجعل المروية التي نتاولها محض سجال!
كثيرون منّا يطالبون الكاتب بأن يقترب من المتلقي، وهذا الاقتراب يتجسّد في ما يتحسّسه القارئ من خلال القراءة، بأن شيئاً ما هنا يشبهه، وهذا ليس معياراً كلياً لأن ينحاز الكاتب إلى القارئ، فيكفيه أن يتواطأ معه في بعض الأماكن، إيماناً منه بأن القارئ هو خيط إضافي من خيوط مرويته، وحضوره في الحكاية يزيد من أصالتها، فكلما اقترب الكاتب منه، أعطى نصَّه هالة من الصدق.
لعلّ البعض يتساءلون كيف يكون هذا؟ ببساطة أقول: عندما يتناول أي قارئ منّا، أيّ عمل أدبي، ويتلمس في داخل حواسّه بأنه يرى الشخصيات بشكل طبيعي، ويقبض على الحدث من خلال المشاهدة في المتخيل، وقتذاك أجزم بأن الكاتب أصاب مقتل القارئ في الصميم، وبأن نصّه قد قام.
وهذا لا يتأتى بالهين، فكل ما نقرأ اليوم هو سرد لملء السطور ليس إلا، سرد لا نشعر بلسعته في حواسّنا، وأحداث لا يمكن أن يعلق في أذهاننا منها شيء. بمعنى لمجرد أن تطبق ضفتي الكتاب وترميه جانياً، تنسى كل ما قرأت. وحده الذي يعلق في رأس القارئ ويعمر طويلاً، من خلال التفاعل الحسّي لدى الأخير، «هو النصّ الرائي»، أي النصّ القابل للتحميل الفني، كما مرّ معي في مرويات كثيرة أذكر منها على سبيل المقال لا الحضور، «باب الليل» للمصري وحيدة الطويلة، و«مقصلة الحالم» للأردني جلال برجس، و«حاموت» للعراقية وفاء عبد الرزاق، وأخيراً ما هو بين يدي ومما تركه اللبنانيّ محمود عثمان، والذي ارتكب عن سابق قناعة معصية «أرواد»، حكاية القبطان مصطفى البطريق، الصادرة عن منشورات «ضفاف للطباعة والتوزيع».
فمنذ المطلع الأول تتلمس أنت كقارئ، أنك أصبحت في داخل الدائرة تماماً، والدائرة القرائية هي بالفعل أن تكون هنا، في الحدث، فمن حيث لا تدري، تذهب في المتخيّل مع التصاوير والتي قد تجعلك تتلفت لتعاين عن كثب ما التقطته عيناك، لا كلمات مصفوفه، بل حياة عادية يتم خرقها بمعية الكتابة:
«كشك مسقوف بالتوتياء يلتصق به مقهى عتيق في شارع بور سعيد، للكشك باب حديدي أزرق. اللون باهت والشمس الضعيفة ترسل أشعتها على الرصيف. قطة هزيلة متسخة تقف كالحارس الغافل عن أمره، تكاد لا تستطيع تحريك ذيلها، وعيناها غائرتان كبئرٍ ناضبةٍ».
لعلّ التفاصيل التي عبرت تواً، لا تعني لنا بالكثير، فهي تفاصيل نعيشها ونعبرها بكل لحظة، أجزم بأن كلمة «توتياء» وحدها ولمجرد مرورها علينا نحن العوام، تأخذنا نحو تصاوير سالفة، مثل، مكابدة الحر في الصيف، والبرد في الشتاء. أنا كقارئ من خارج النص، تواً عدت من الاستماع إلى تلك المعزوفة التي سجّلها المطر وحبّات البَرَد، التي هطلت على سقف بيتنا الريفي، نعم… لا يمكن أن يمر هذا المشهد عبثياً في متخيّلي، لماذا لم أزل أحتفظ به كإرث جميل؟ في حين كان أبي وقتذاك متوجّساً وخائفاً من أنّ العاصفة قد تخلع ألواح التوتياء ونصير والمطر وجهاً لوجه.
وبعيداً عن الحكاية، نجد أنّ عثمان لم يكن يكتب، بل كان يزجّ تصاوير المكان وتفاصيله الدقيقة وبطريقة سلسلة لا توذي العين كما نشاهده اليوم من تشوّه بصري في شوارع الحياة العادية. يقول: «وجدته غارقاً في مقعده الرثّ، هذا الرجل السبعينيّ الموشّى بالشيب. يتوارى في كشك محشوّ بأشكال بوهيمية صغيرة تختلط فيها البضائع والأجناس، وبعضها فقد صلاحيته للاستهلاك من زمن بعيد».
نصّ مروية «أرواد» نصّ فاعل، كامل التقاطيع من حيث أنه قابل للتحميل فنياً، وتشي بذلك لوحاته المتوالية كعقد لضمّ في خيط الحبر المكين، والذي اشتغله محمود عثمان بتخفف ليكون نصّاً شعبياً بمعية السرد الذي ارتقى.