الثورة على الثورة بقيادة البورجوازيات الرجعية

د.رائد المصري

من المُتعارف عليه في علم السياسة قديماً وحديثاً أنَّه عندما يُصاب النظام الرأسمالي بأزمات بنيوية حادة، فأوَّل إرتداداته أو انعكاساته تقع على الحلقة الأضعف من سلسلة هذا النظام، ونقصد هنا بقولنا إنَّ البلدان العربية طالما كانت تشكِّل هذا الامتداد أو الضعف في حلقة المنظومة الرأسمالية، وبناءً عليه حصلت هذه الانتكاسات والارتدادات العنفية فيها، أو ما سُمّي زوراً وبهتاناً بثورات الربيع العربي أو في ما بعد الإسلامي الراديكالي الدامي.

والمُتعارَف عليه أيضاً أنَّه في داخل هذه الحلقة العربية الضعيفة من السلسلة الرأسمالية المأزومة يحصل انقلاب مضاد على الثورة يقوده أباطرة المال والنفط والغاز. وهو ما مثَّله أمراء بلدان الخليج في محاولة لتأطير ردِّ الفعل الثوري وتطويعه خشية من عواقب وارتدادات تقلّب الوضع القائم والمأزوم أصلاً، وتأخذه نحو سياقات مجهولة النتائج والأهداف والمَرامي. وهو ما فوجئ به العالم في سرعة التأزُّم بين بلدان الخليج بعضها بالبعض الآخر.

تستوقفني هنا الحالات الثورية التغييرية التي حصلت مع بداية القرن الحالي، حيث إنَّ الثورة تأتي كردِّ فعلٍ نتيجة مظلومية تلقَّتْها شرائح شعبية واسعة وإمعان في التسلُّط والقهر الاجتماعي والسياسي من قبل سلطة حاكمة مستبدَّة، زاوجت بين برجوازياتها الداخلية وتراكماتها في تركُّز الثروات، وبين عمليات النهب الخارجي مع البنوك الدولية لإحداث فجوة اجتماعية كبيرة أدَّت إلى الفوضى الثورية التي تمهِّد غالباً نحو التغيير.

لكن ما نحن بصدده هنا حالات معكوسة ولا تشي إذا دقَّقنا النظر فيها الى الفعل الثوري ومغزاه الحقيقي، فكيف لثورة مُفتعلة بتقديري كالتي سطَتْ على الحكم اللبناني منذ العام 2005 والشعارات المزيَّفة التي رافقتها قادرة أن تحقِّق حلُمَ الجماهير اللبنانية منذ ذلك الوقت إلى اليوم..؟ في حين أنَّ معظم قادتها ورموزها هم من أهل السلطة وأربابها ومافياتها الناهبة ثروة الشعب اللبناني. وهم من الكوادر الليبراليين ومن الأدوات الفاعلة وأذرع البنك الدولي. هم كذلك من كبار وملاك الإقطاع السياسي والمالي والطائفي، والذين لا تستوي معهم أيّة موجة ثورية تنشد العدالة الاجتماعية والعيش الكريم، فهؤلاء دأْبُهم إفقار الناس وتشليحهم مقدِّرات عيشهم المتواضعة وما في جيوبهم. وهذا من أسباب ومن مسبِّبات بقاء وتسلُّط هذه الإقطاعات السياسية والطوائفية والمالية الاقتصادية وتحكُّمها. فنحن هنا لسنا أمام حالة ثورية بل نحن أمام عملية خطف وسلب ولَعِب على الوجدان التاريخي لذاكرة الناس المحمَّلة بنوستالجيا التغيير. ومن هنا وُضِع منظّروها في الحَجْر الصحي اليوم، حيث نراهم يقومون بهلوسات وبطرح أفكار تصلُح في أغلبها، لأنْ تكون طريقاً لشُذَّاذ الآفاق والمارقين على مراكز ومستشفيات الأمراض العقلية، نتيجة الصَّدم من مجازر القتل والاغتيال التي ارتكبوها أيام الحرب الأهلية اللبنانية، والجرائم التي افتعلها هؤلاء ليس أقلّها قتل رئيس حكومة لبنان الشهيد رشيد كرامي.

توازياً للمنظِّرين الثوريين في لبنان نتطلَّع ونلاحظ كوادر ما أسْموه زوراً كذلك ما يُسمَّى رموز الثورة والتغيير في سورية والتي انطلقت موجاتهم التحرُّرية عبر منصَّات العالم، منها منصَّة واشنطن ومنصَّة الرياض والقاهرة وإسطنبول والدوحة وغيرها، ندرك ولا نتفاجأ من حجمِ المنجزات التي حقَّقها التغيير المنشود لهذه القيادات الليبرالية منها والمُلْتحية والملْتحِفة بعباءة الدين والفتوى، فترى تدهور أوضاعها في انحدار سريع لم نستطع اللحاق به لمعرفة متغيّراته ومستقرّاته الجديدة. وهو بطبيعة الحال انحدار سياسيٌّ وتسليحيٌّ في آن واحد، فأوقفت الولايات المتحدة برامجها التدريبيّة والتسليحيّة، وتوصَّّل مُعظم البلدان العربية، وفي الغرب أيضاً، إلى قناعةٍ راسخةٍ تامة بأنَّ الرئيس السوري بشار الأسد باقٍ إلى أجلٍ غير مُسمّى. وهذا يدلُّ ويؤشِّر إلى اقتراب الحَرب الدائرة في سورية من نهايتها.

رُبَّما يستطيع المراقب أو المتابع أنْ يفهمَ أيَّ حالة ثورية أو على الأقل اعتراضية على نظام وآليات الحكم المعتمدة في أي بلد من بلدان العالم، نتيجة سوء في الإدارة أو فسادٍ في نواحٍ معينة أو مظلومية تُرتكب بحق الشعب لناحية المساواة أمام القانون أو الإخاء في المواطنية… لكن ما لا يُمكن فهمه هو أن تقود في فنزويلا مثلاً ثورة ضدَّ الحكم القائم معظم منظريها وعُتاتها وقادتها من اليمين المتطرِّف العنصري والمتحالف مع البورجوازيات ومافيات المال والسلاح والنفط، المتزاوجين مع العولمة الأميركية التي تعتمد القرصنات البنكية وتُمْسِك شرايين إمداد التمويلات المالية والسطو على شركات النفط والغاز لتطويع القرار السياسي لقادة البلد… أنْ يقود اليمين المتطرِّف والعنصري ثورة تغييرية في وجه الثورة البوليفارية التي قدَّمت أكبر ضمانات اجتماعية وطبية وحقوقية لشعوب أميركا اللاتينية، وحصَّنت استقلال البلاد وحَمَتْه ووحَّدت القرار السياديَّ لدولها منعاً للعبث ومن التدخُّل الخارجي الاستعماري… إنّها الغرابة في حدِّ ذاتها والوقاحة لقوى ما تُسمَّى الثورة اليمينية الليبرالية العنصرية التي شاهدنا عروضها الأولية على المسرح اللبناني الطوائفي والمذيَّل إخراجه بتواقيع أدوات البنك الدولي وعوالقه التي امتصَّت من دم الشعب ومن عرقه لتُفرغَه في جيوب حيتان المال والنفط والغاز….

حيث يُصار إلى عرض المسرحية ذاتها بوجوه مختلفة، لكن كالحة ومسخ في الحالة السورية، وصولاً الى أميركا اللاتينية وفنزويلا من دون أنْ يتناسى أصحابها المنعطفات الكبيرة التي حصلت في سنوات الحرب السورية، معتبرين أنَّ نموذج عقاب صقر قد يصلح لكلِّ زمان ومكان من الشمال السوري إلى جرود لبنان الشرقية التي يتمُّ العمل على تحريرها اليوم، حتى كاراكاس التي يريدونها رمزاً للثورات المضادة لكن بأدوات بالية صدئة لن تبرّئهم من أفعالهم الآثمة بحق الشعوب الفقيرة التي ساهموا في قتلها وذبحها. إنّه التحوُّل الحاد والعنيف في بلاد العرب المُترافق مع صعود اليمين في الغرب ووصول رئيس أميركي عنصري الى الحكم في أقوى دولة في العالم، حيث يتزامن ذلك مع أزمات كبيرة تضرب أركان الرأسمالية. وهو الأمر الذي يجعلها أكثر شراسة واستفراساً في سعيها لنهب أموال ومقدرات الشعوب الضعيفة الفقيرة، مستغلة مقاومة الأنظمة الكلاسيكية وحربها ضد حركة التغيير لابتزازها من خلال افتعال الأزمات لتمرير صفقات التسلح الذي سيرتدُّ حتماً على الشعوب المتطلِّعة للحرية ولأن تكون جزءاً من عصرها.

وأخيراً يبدو في ما سطَّره أنطونيو غرامشي المفكر الماركسي حول مقولة: إنّ هناك نظاماً قديماً يحتضر ونظاماً جديداً لا يستطيع أن يولد… هي مقولة صحيحة، فالنظام القديم استخدم ووظَّف كلّ أسلحته وطاقاته البائدة أصلاً، وأقصى ما حقّقه حتى الآن هو إبطاء حركة التغيير المتسارعة. فالتاريخ سيمضي إلى الأمام وستُمْسي المنطقة على وقائع جديدة.. لكن انتظروا واصبروا…

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى