واشنطن: حرب كلامية متهوّرة واتصالات سرية مع كوريا الشمالية
انفرجت أسارير الرئيس الأميركي دونالد ترامب لبروز الأزمة مع كوريا الشمالية، ليس في بُعد التلويح بحرب ستجلب «النار والغضب» فحسب، بل هروباً من سيل الفضائح السياسية وصرف الأنظار عن الملاحقات القضائية التي تشتدّ حول أقرب الدوائر إليه.
سيستعرض قسم التحليل حيثيات الأزمة وحبس العالم برمته أنفاسه خشية اندلاع حرب تدار بالأسلحة النووية هذه المرة وقلقاً من تهوّر وخطأ في الحسابات تنزلق بالكون برمّته إلى المحظور. والتعرّض لها بوضعها في إطارها التاريخي الصحيح امتداداً لسياسة أميركية «متغطرسة وعديمة الفائدة» تستند الى قناعتها باستثنائيتها من جانب واحد.
على الرغم من كثافة الضباب الذي تحيكه واشنطن بتصريحاتها العدوانية، إلا انّ حالة شبه إجماع الأطراف الدولية المتعدّدة بعدم الإنزلاق للخيار العسكري تعيد الحيوية مرة أخرى لخيار التفاوض الديبلوماسي وما ينطوي عليه من تقديم تنازلات متبادلة كانت الحرب ستحول دون تقديم واشنطن أيّ مؤشر تراجعي.
شبه الجزيرة الكورية
انفردت مؤسسة هاريتاج بتأييد الرئيس ترامب في سياسته الكورية دون تحفظ، نظراً لانتهاجه مساراً مغايراً لنمطية واشنطن التي «تكثر في حديثها حول الأزمة وتطلق الوعود للتصدي لها… بينما الفعل الملموس أمر آخر». وأوضحت أنه لهذا السبب بالذات «انتخب الشعب الأميركي دونالد ترامب لاعتقادهم بأنه رجل عملي يمشي لتحقيق النتائج دون هوادة».
واستكملت مؤسسة هاريتاج مسار دعمها للبيت الأبيض بالتركيز على حالة «نظم الدفاع الصاروخي الأميركية»، مناشدة صناع القرار تبني نصائحها واقتراحاتها في هذا الشأن خاصة أنّ «وزير الدفاع بمشاركة رئيس هيئة الأركان يجرون مراجعة مشتركة للميزانية السنوية للعام الحالي تخصّ تحديد معالم الاستراتيجية الأميركية للدرع الصاروخية… وإبقاء الأنظار مصوّبة نحو آليات التصدّي للصواريخ الباليستية والقضاء عليها يوفر فرصة فريدة لوضع سياسة الدفاع الصاروخي الأميركية على سكة سليمة».
حذّر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية من مغبة «المبالغة بحجم التهديد والانزلاق لمستوى الذعر من كوريا الشمالية ورفعها الى مرتبة تهديد قصوى» مستدركاً بأنها قد تكون الدولة الأشدّ عسكرة في العالم وبإمكانها «إلحاق ضرر كبير مع مرور الزمن.. بيد انّ جهود التقصي والتحقق من صحة ما تنشره وسائل الإعلام الأميركية ستستغرق زمناً طويلاً». وعزّز تحذيره من عدم الانجرار السريع بالإشارة إلى حقيقة ترسانة كوريا الشمالية لا سيما أنّ «سلاح الجو وقوات الدفاع الصاروخي أرض – جو هي قديمة وأقلّ فاعلية بكثير مما تمتلكه كوريا الجنوبية والولايات المتحدة… خاصة بطاريات «باتريوت – 2 أس»، وعدد كبير من صواريخ هوك المعدلة، بالإضافة الى عدد متزايد من نظم الدفاع الجوي ثاد».
طالب مركز الأمن الأميركي الجديد صنّاع القرار بإنزال عقوبات متشدّدة بكوريا الشمالية نظراً لقدرتها الثابتة على تخطي عقبات الإجراءات السابقة «التي لم تكن شاملة إلى عهد قريب… فضلاً عن أنّ قرارات الأمم المتحدة العقابية الأربعة بين عامي 2005 2015 لم تشدّد وتيرة العقوبات الاقتصادية» عليها. وخلص بالقول إنّ «نظامي العقوبات الأممية وللولايات المتحدة ضدّ كوريا الشمالية كانا أخفّ تقييداً من نظام العقوبات الأميركي المفروض على إيران» للفترة الزمنية عينها، 2005-2015.
أما معهد كاتو فقد انفرد من بين أقرانه بمطالبته صنّاع القرار الانسحاب وإخلاء القواعد العسكرية الأميركية خارج البلاد، في أعقاب تنامي الجدل السياسي لزيادة عديد القوات الأميركية على امتداد العالم. وأوضح مطالبته بأنها تستند الى حقيقة «كون معظم حلفاء الولايات المتحدة أثرياء وأقوياء بما يكفي لتحمّلهم أعباء الدفاع الذاتي». ومضى محذّراً من أنّ بقاء القواعد العسكرية الأميركية منتشرة من شأنها «إغراء السياسيين باتخاذ قرارات عسكرية استناداً إلى معطيات خاطئة، أو تحقيق أهداف في سياق ملاحقتها لمكافحة الإرهاب التي لن تتحقق بيسر عبر نشر قوات قتالية على الأرض». وأعاد التشديد على مطالبته القيادات السياسية والعسكرية الأميركية «سحب تواجدها العسكري الدائم في الخارج والتخلي عن مواقعها المتقدمة في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا».
سلّط معهد أبحاث السياسة الخارجية الأنظار على تبادل التهديدات بين واشنطن وبيونغ يانغ، التي هدّدت باستهداف القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في جزيرة غوام بالمحيط الهادئ بالزعم أنّ «جيش الشعب الكوري الشمالي يدرس بحذر الخطوات العملياتية» لاستهداف الجزيرة، مستدركاً أنّ ذلك «لا يصنّف بأنه خطر وشيك بقصف الجزيرة… بل رسالة كورية بأنها على أتمّ الاستعداد للقيام بذلك». وأضاف موضحاً أنّ لهجة البيانات الصادرة عن كوريا الشمالية «تميل للإيحاء بأنها اقتربت من شنّ هجوم في المستقبل القريب. لكنها ترسل تهديدات متواصلة لجيرانها وخصومها في فترات منتظمة».
سلاح الكوارث
أزمة «ربما» مفتعلة وضعت العالم على شفير حرب نووية كارثية، لا تُبقي ولا تُذرّ، وتُعيد إلى الأذهان أجواء أزمة الصواريخ الكوبية، في مطلع عقد الستينيات من القرن الماضي، التي أدّت في نهاية المطاف الى صيغة متبادلة: تسحب واشنطن صواريخها المنصوبة في تركيا سراً ودون ضجيج مقابل سحب موسكو «لمعظم» صواريخها من كوبا.
باستطاعتنا المرور على تطوّراتها بإيجاز شديد: كوريا الشمالية تتهم الولايات المتحدة بالإعداد لشنّ «حرب وقائية» أميركا، وعبر تقرير لصحيفة «واشنطن بوست»، استفاقت على تطوير كوريا أسلحة نووية باستطاعتها الوصول للأراضي الأميركية على الرغم من تأكيد الأكاديميين والخبراء في علم الصواريخ بعكس ذلك عقلاء المؤسسة الأميركية يحذّرون الرئيس ترامب من «التهوّر»، وهو ماضٍ في لهجة التهديد والوعيد «غير آبه بالنصائح» وزير الدفاع «الكلب المسعور» جيمس ماتيس يهدّد ويرسل قطع بحرية «متطوّرة» الى بحر الصين الجنوبي، ومن ثم يفسح المجال للمسار الديبلوماسي وأميركا الرسمية تكشف في اللحظات الأخيرة عن تفعيلها لقناة اتصالات ديبلوماسية سرية مع كوريا الشمالية عبر الممثل الدائم للأخيرة في هيئة الأمم المتحدة.
تخلّلت ذلك تصريحات شديدة الوضوح من الصين وروسيا مطالبين «الطرفين» بالتهدئة والتعقل والتحذير أيضاً من انزلاق مسار الأزمة الى نقطة اللاعودة، لخشيتهما معاً من تعرّض أمنهما القومي ومجالهما الاستراتيجي لتداعيات الحرب.
سال حبر كثيف ولا يزال في الآونة الأخيرة طمعاً في استنباط حقيقة الموقف الأميركي في ما يخصّ كوريا الشمالية في ظلّ تصعيد «الحرب الكلامية… ونشر أسلحة جديدة وإجراء تجارب حية»، بالقرب من أراضيها، في سياق ممارسة واشنطن اللعب «على حافة الهاوية»، وفق أفضل التوقعات تفاؤلاً بينما تمضي الوسائل الإعلامية الكبرى، المقروءة والمرئية، في تأكيدها نقلاً عن قادة البنتاغون بتفاصيل الضربة الأميركية والأسلحة التي ستستخدم والمواقع المرشحة للاستهداف، وما ينقصها سوى اتخاذ قرار سياسي بذلك.
ليست هي المرة الأولى التي تُفصح فيها الولايات المتحدة عن «جهوزية استعداداتها» لشنّ حرب «وقائية» ضدّ الدولة والشعب في كوريا الشمالية، ضمن مسار يتقاذفه التشنّج والحوار على امتداد ربع قرن من الزمن بغية تحقيق هدف واشنطن بحرمان بيونغ يانغ من اقتناء التقنية النووية.
سبر أغوار حقيقة الموقف الأميركي تستدعي النظر إلى الأزمة المتصاعدة حديثاً في إطارها التاريخي وفي الرسائل المتعدّدة التي تنوي واشنطن توجيهها لعدد من الأطراف، بدءاً بإيران وليس انتهاءً بروسيا والصين الذين يرصدون مجتمعين وبعناية كبيرة وجهة سير السياسة الأميركية في عهد رئيس لا يضمر نزعته العدوانية والإقصائية ويستمتع بلغة التصعيد والتهديد.
أميركا: الخيار الأول عسكري
للدلالة على ثبات الخيار العسكري كأولوية نشير إلى دراسة نشرها إثنان من كبار قادة سلاح الجو الأميركي، رئيس أركان الطيران ديفيد غولدفاين ورئيس القيادة الجوية للهجوم الشامل روبين راند، في مجلة «بوليتيكو»، بتاريخ 12 أيار/ مايو الماضي بعنوان استفزازي: «لماذا أحسنت الولايات المتحدة الاستثمار في الأسلحة النووية»، يبرّران فيها استراتيجية تحديث واشنطن لترسانتها النووية، التي باشرت فيها في عهد الرئيس السابق أوباما، بأنّ الأسلحة النووية ضرورية «لبسط السلام العالمي».
لعلّ أهمية دراسة الثنائي أعلاه، فضلاً عن مضمونها الواضح، مركّبة من ناحية توقيتها، قبل يومين من إجراء كوريا الشمالية تجربة صاروخية، ولموقعهما المركزي إذ يمثلان ضلعي قرار «المثلث النووي» في الترسانة الذرية الأميركية وما «يعادل نحو 75 من مراكز التحكم والسيطرة النووية» برمّتها.
موضوع الدراسة ينطوي على تهديدات مبطنة لكلّ من إيران وروسيا والصين عبر طرق بوابة كوريا الشمالية بالقول «التهديدات المفتوحة الصادرة عن كوريا الشمالية… على أعدائنا المحتملين أن يدركوا بأنّ قيادتنا السياسية ستتخذ القرارات الضرورية لحماية الشعب الأميركي وحقه في الحياة، وأيضاً لمصلحة حلفائنا».
بالعودة لقرار إدارة أوباما السالف الذكر، إذ أطلقت برنامجاً لإعادة تحديث الترسانة النووية الأميركية هو الأضخم من نوعه نظراً لكلفته المقدرة آنذاك بنحو 1000 مليار دولار تريليون تشمل «بناء 12 غواصة نووية هجومية، كلّ منها مزوّدة بـ 24 صاروخاً ويمكنها إطلاق ما يزيد عن 200 رأس نووي 100 طائرة قاذفة استراتيجية، كلّ منها مسلحة بنحو 20 صاروخ أو قنبلة نووية 400 صاروخ باليستي عابر للقارات، كلّ منها يحمل رؤوساً نووية متطوّرة». ويضيف الثنائي النووي أنه ينبغي تخصيص ما لا يقلّ عن «5 من مجمل ميزانية وزارة الدفاع لبرنامج التحديث على امتداد العقد المقبل».
تتالت التهديدات الأميركية لكوريا الشمالية منذ زمن بعيد، بذات المفردات القاسية متوعّدة بالويل والثبور وعظائم الأمور، بل التصريح الفاضح بمحو شعبها عن سطح الكرة الأرضية، كما جاء على لسان وزير الدفاع جيمس ماتيس مؤخراً بالمرور على مناسبتين كان قرار العدوان الأميركي قيد التنفيذ.
الأولى إبان عام 1994 على يد مساعد وزير الدفاع الأسبق، ريتشارد بيرل، بدراسة حملت عنوان نزع فتيل قنبلة كوريا الشمالية، وضح عناصرها في مقابلة متلفزة أجراها خلال ذلك العام ومشدّداً على إعجابه بالعدوان «الإسرائيلي» على المفاعل النووي العراقي مطالباً بلاده الاقتداء به في ما يخصّ كوريا الشمالية، إذ أسفر الهجوم «الإسرائيلي.. عن تدمير المفاعل بالكامل ولم ينتج عنه أيّ دمار خارج نطاق مبنى المفاعل».
الردّ الكوري آنذاك كان صارماً أيضاً لاستشعاره ترتيبات عسكرية أميركية ضدّ بيونغ يانغ بينما كانت مفاوضات «سلام» جارية على قدم وساق مع الجانب الأميركي بالإعلان «أننا جاهزون للردّ بالمثل، العين بالعين والحرب بالحرب. إنْ اندلعت الحرب سنحيل سيوول عاصمة جارتها الجنوبية الى بحر من النار».
الحالة الثانية كشف عنها وزير الدفاع الأسبق، ويليام بيري، في عهد ولاية الرئيس كلينتون، ضمّنها في مقالة بتوقيعه نشرتها مجلة «بوليتيكو»، 15 نيسان/ ابريل الماضي، موضحاً أنه قدّم تقريراً للرئيس كلينتون، بمشاركة رئيس هيئة الأركان آنئذ جون شاليكاشفيلي، عام 1994، عرضا فيه «ثلاثة احتمالات تستند الى تعزيز عديد القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية لأزيد من 37.000 جندي» الذين يرابطون هناك منذ نهاية الحرب الكورية.
لعلّ الاعتراف الأخطر لبيري إقراره بأنه في العام 1994 «أشرف على إعداد خطط مفصّلة لشنّ ضربة عسكرية ضدّ المفاعل النووي في بيونغ يانغ.. كنا بمنتهى الجدية، والجانب الكوري الشمالي كان يدرك ذلك…»
يُشار الى أنّ التصعيد آنذاك تمّ تداركه في اللحظات الآخيرة بإعلان الرئيس كلينتون بهدوء عن توصّل الجانبين إلى اتفاق مشترك.
سياسة أم تخبّط؟
المتتبّع للسياسة الأميركية نحو كوريا الشمالية يلحظ تناقضها الصارخ لا سيما منذ تولي الرئيس ترامب مهام منصبه. تصريحات للرئيس تهدّد بالعدوان والتدمير، عزّزها بنشر بطاريات الدرع الصاروخية «ثاد» والمصادقة على إجراء مناورات عسكرية «مستفزة» تقابلها تصريحات لوزير الخارجية ريكس تيلرسون، يطمئن بيونغ يانغ بأنّ واشنطن لا تشكل تهديداً لكوريا الشمالية، موضحاً للمرة الأولى أنّ «الإطاحة بالرئيس الكوري وتغيير النظام ليس هدفاً لواشنطن»، أتبعه بتصريح آخر طالباً التهدئة بأنه «لا يعتقد أنّ هناك تهديداً فورياً على أميركا».
أركان الإدارة الآخرين، لا سيما وزير الدفاع، وأقطاب المؤسّسة الحاكمة ممثلة في الحزبين أطلقوا تصريحات تصعيدية وتهديدية أيضاً. كوريا هدّدت بقصف جزيرة غوام في المحيط الهادئ، وبها قاعدة عسكرية أميركية معتبرة يقف في خدمتها نحو 162.000 مواطن أميركي. ونظراً لاعتبارات المساحة المخصّصة نكتفي بتلك الإشارة والمرور السريع على مواقف حلفاء الولايات المتحدة.
تميّزت ألمانيا بسرعة تعليقها على تهديدات الرئيس ترامب. وجاء على لسان وزير خارجيتها، زيغمار غابرييل، أن «… تلك التصريحات تبعث على القلق والخوف من أننا سنتورّط في حرب كالمعتوهين على غرار ما حدث في حقبة الحرب العالمية الأولى». الحلفاء الأوروبيون الآخرين أيضاً حذروا من الانزلاق نحو حرب نووية كارثية.
«الحق على الطليان»
بداية ليس من باب التندّر أو السخرية، كما في الوعي الشعبي العام للدلالة على تهرّب الفرد وتواريه عن تحمّل المسؤولية، بل للإضاءة على دور الأوروبيين وإيطاليا تحديداً في نشر وليس حظر الأسلحة النووية على أراضيها.
المناسبة فرضتها ديمومة التصريحات الأميركية بشكل خاص حول أهمية التزام الدول الأخرى بمعاهدة حظر الأسلحة النووية، التي تبنّتها «أغلبية كبيرة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة»، في شهر تموز/ يوليو من هذا العام، وصوّتت لصالحها نحو 122 دولة ولم تشمل أيّ من الدول التي تمتلك أسلحة نووية: أميركا، فرنسا، وبريطانيا في الجانب الأوروبي وروسيا والصين و«إسرائيل» والهند وباكستان وكوريا الشمالية.
نخصّ بالذكر دول حلف الناتو الأخرى التي لم تنضمّ للمعاهدة: إيطاليا، ألمانيا، بلجيكا وتركيا التي «تأوي الأسلحة النووية الأميركية» على أراضيها، وحلفاء آخرين لواشنطن: اليابان، أستراليا وأوكرانيا.
تخلف إيطاليا عن الانضمام للمعاهدة جاء على خلفية ما يترتب عليها القيام به، أيّ التخلص من الأسلحة النووية الأميركية المنتشرة على أراضيها: ما لا يقلّ عن 70 قنبلة نووية من طراز B-61 موزعة على ثلاث مواقع. كما وافقت إيطاليا على تخزين قنابل نووية أشدّ حداثة، من طراز B61-12 «بدءاً من عام 2020» إذ أنّ الجيل المتطوّر من الأسلحة الأميركية تفوق قدرته التدميرية الجيل السابق بثلاثة أضعاف، وفق بيانات وزارة الدفاع.
للتذكير، إعلان الرئيس بيل كلينتون عن توصّل الطرفين لاتفاق واكبه ترداد مستدام لتحقيق «الهدف الأميركي الحيوي منذ أمد بعيد: وضع حدّ للتهديد الناجم عن انتشار السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية».
أما أسلافه فقد ثابروا على تحقيق ذلك بالتهديد والترغيب، تطبيق نظام عقوبات اقتصادية ووعود بانفتاح اقتصادي، ورفضت كوريا ذلك الى أن استفاقت واشنطن على أسلحة نووية كاملة الأوصاف، وإنْ تكن متواضعة العدد، إيذاناً بفشل سياستها وإجراءاتها في حشد دول الجوار الأخرى لتطبيق المقاطعة الاقتصادية.
تجدر الإشارة إلى أنّ الاتفاق أعلاه لم يثبّت كاتفاق أو معاهدة رسمية يؤيدها الكونغرس بسبب خشية الإدارات الأميركية المتعاقبة من عدم نيل موافقة مجلسيه والتضحية برصيد سياسي هي في أمسّ الحاجة إليه.
الأمر الذي أتاح الفرصة لبيونغ يانغ مواصلة نشاطها بوتيرة متسارعة، وبالتعاون مع راعي القنبلة النووية الباكستانية، عبد القدير خان، إلى حين انكشاف أمره من قبل الولايات المتحدة. واستطاعت كوريا الشمالية، بموجب الاتفاق، الحصول على وقود لمفاعلَيْها النوويّيْن وإمداد واشنطن لهما بالمياه الثقيلة وشبكة جديدة لتوزيع الكهرباء، قدّرت كلفتها مجتمعة بنحو 5 مليارات دولار «مقابل وعود قطعتها» كوريا الشمالية سرعان ما وجدت ثغرات لتفادي الالتزام بها.
وكلفت إدارة كلينتون وزيرة الخارجية آنذاك، مادلين أولبرايت، بزيارة عاصمة كوريا الشمالية، عام 2000، للقاء الزعيم الكوري الأب كيم جونغ إيل، لطمنأنته بأنّ حكومة بلادها لم تعد تصنّف بلاده «كدولة مارقة».
إدارة الرئيس جورج بوش الإبن أقلعت مبكراً عن التعامل مع كوريا الشمالية، وجمّدت الاتصالات الجارية بذريعة «استمرار البرنامج النووي» ورسمت خطها الأحمر عام 2006 للحيلولة دون إجراء كوريا الشمالية تجربتها النووية الأولى، سرعان ما ثبت بطلانه وتجاوزه، وانشغال واشنطن باستراتيجيتها الكونية بشنّ الاعتداءات وغزو أفغانستان والعراق.
الحلّ في متناول اليد…
أيقنت واشنطن أنّ رهانها السابق على فعالية إجراءات المقاطعة، بكافة أشكالها، لوقف التقدّم الكوري لتوسيع ترسانته النووية لم يكن إلا سراباً ووهماً يصرف إعلامياً في الداخل الأميركي كما شهدنا في تبنّي مجلس الأمن الدولي قراراً بالإجماع لمعاقبة كوريا الشمالية.
بل الأهمّ إدراك واشنطن لحدود مراهناتها على تبني الصين مواقف موازية لأميركا وامتثالها «لقطع شريان الحياة» مع جارتها، التي لم تكن سوى رغبات ذاتية لا تصرف في الرصيد السياسي والاستراتيجي.
الخيار العسكري «المفضّل» لواشنطن ينطوي على مخاطر حقيقية وتصعيد غير مسبوق للتحاور بالسلاح النووي، وما يترتب عليها من كوارث إنسانية طويلة الأجل.
ما يتبقى من «أسلحة مراهنة» لدى واشنطن تتمحور حول إعادة «مقترحات ريتشارد بيرل»، السالفة الذكر، إلى الواجهة: الذهاب لطاولة المفاوضات مع إبقاء التهديد بشنّ «حرب استباقية» على منشآت كوريا الشمالية قائماً.
وقد نشهد «تصعيداً» أميركياً منخفض المستوى نسبياً بغية التأكيد على حضورها وتحكّمها في مسار الأحداث عبر اعتراضها وإسقاط صاروخ لكوريا الشمالية في مرحلة التجربة خارج الأجواء الإقليمية، واختبار جهوزية ترسانتها البحرية، وفي الخلفية إرسال رسائل سياسية لأطراف متعدّدة إمعاناً في تأكيدها على قدرتها بالتصدي العسكري بمفردها.
عند هذا المنعطف الحاسم ينبغي الإشارة السريعة لتقارير الأجهزة الاستخباراتية الأميركية «تؤكد» فيها قدرة كوريا الشمالية على إنتاج رأس حربي نووي مصغّر ينصبّ على صاروخ باليستي. في المقابل، جدّدت أسبوعية «نيوزويك» الأميركية، 11 آب الحالي، شكوك الخبراء بعلم الصواريخ بادّعاءات واشنطن ووصفها بأنها «خدعة» باستنادها إلى تقرير حديث الصدور عن مجمع علماء الذرّة الأميركي، يفنّد فيها قدرة أسلحة بيونغ يانغ الوصول إلى الأراضي الأميركية.
وأضافت المجلة أنّ البيت الأبيض امتنع عن الردّ على مضمون تقريرها، خاصة في جزئية التقرير العلمي وجزمه بأنّ «… الصاروخ الكوري الشمالي من طراز هواسونغ – 14 هو صاروخ ما دون مرحلة الصواريخ العابرة للقارات ولن يكون بوسعه حمل رؤوس نووية تستهدف الولايات المتحدة».
وختمت المجلة تقريرها بالقول إنّ التقرير العلمي بعد اطلاعها عليه بنسخته الأصلية «ينافي تقرير صحيفة «واشنطن بوست» الأخير المستند الى مصدر مجهول الهوية في وكالة الإستخبارات الدفاعية»…
هذا الجدل وتنافر التصريحات مع الحقائق العلمية تعيدنا الى ترجيح «الحلّ بالسبل الديبلوماسية»، على الرغم من إصرار واشنطن على عدم «تسامحها» مع برنامج بيونغ يانغ الذي تعتبره حجر الأساس في سياسة البلد، في البعدين الداخلي والخارجي.
طرق هذا المسار «الاضطراري» ينطوي على تقديم تنازلات لا تسمّى بمسمّياتها حفاظاً على تماسك اللحمة الداخلية للطرفين، فحواه «استعداد كوريا الشمالية الإقلاع عن تجاربها النووية ووقف العمل بها تدريجياً والامتناع عن تصدير التقنية النووية أم معدّاتها، مقابل تقديم الولايات المتحدة ضمانات أمنية بعدم الاعتداء، وصولاً إلى تطبيع العلاقات مع الدولة المارقة».
نشرة دورية تصدر عن وحدة «رصد النخب الفكرية» في مركز الدراسات الأميركية والعربية