«كفر نعمة»… خيط رفيع بين الماضي والحاضر

مجدولين الجرماني

بدءاً من السؤال، كيف لهذا الكون أن ينعم بالسلام، أن ينام مطمئن الحواس وهو محكوم عليه بالشقاء المؤبد؟ فتلك الآلهة المقدسة التي تحكمه منذ بدء الخليقة، أورثتنا البلاهة، صار جين الشرّ هو السائد على حساب انكفاء الخير المنكسر. أيّ آلهة هذه التي لم تزل تدور بنا في مداركها؟

إله الهواء يصارع إله الماء، وإله الأرض يقصف إله السماء. والهدف واضح، فالجميع يريدون السلطة، الكرسي الثابت الدائم والذي يجعل من البقية الباقية عبيداً! لا يكفي الإله «رع» إله الزمان والمكان، والآلهة المسؤولة عن محاربة قوى الشرّ والارتقاء بالخير، أن يتظاهروا بالطيبة الزائدة، عليهم أن يكونوا أشد فتكاً عندما يصير الصوت الأعلى للظلم. عليهم أن يحرّروا كل مسالك الخير وألا يتركوا المؤمنين ثانويين في الحياة. فهو ـ أي «رع » ـ أب الفقراء و«آتوم تاسوع هليوبوليس» الذي يحكم مقاطعة «مصر الدنيا» والتي صارت «كفر نعمة» جزءاً منها. عليهم أن يتحرّروا أولاً، ثم يعوا أن لا مناص من أن يتحرّك كهنة آمون ليطردوا أو ينقذوا ما يدور برأس الآلهة الأخرى التي تعيث في الارض فساداً. تلك هي متوالية الخلق، خير وشرّ، الخلق الذي تشكّلت شخوصه نتيجة طمي نهر النيل، فالطمي هو فورة معبّأة بكل أفكار التزمّت والغلّ حدّ الانفجار.

في مرويته الجديدة «كفر نعمة» الصادرة عن «دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع»، يأخذنا الكاتب داود أبو شقرة، منذ المطلع الأول، في دوّامة لا مدى لها، ليوصلنا إلى قناعة وحيدة، بأننا لسنا إلا امتداداً معبأ وراثياً وفكرياً بكل جينات تلك الآلهة.

فالشخصيات التي ابتدعها، خليط من خير وشرّ، وكأني به يقول لي: «سلمي.. فتلك هي تركيبة الكون، فأدهم الشرقاوي استطاع كسر الخوف والتغلب عليه، لكنه سقط صريعاً في المكيدة، ومثله مدبولي الذي عاش حياة الهزل والسخرية ليعبر نحو دروب الضوء».

الكاتب حاول جاهداً رسم خطوط رفيعة رابطة بين مصر وبلاد الشام، فعندما أخذ من مكان «كفر نعمة» مسرحاً لمرويته، نقل قصص الوجع الواحد بين الموطئين، مصر وبلاد الشام، وليس خفياً على أحد، حين يكون الحديث عن هاتين البقعتين على الارض، لا بد للّغة أن تسمو وتصير ندية، كما حدث مع داود أبو شقرة. فتارة نجده يرسمها رسماً وفي أخرى يمرّرها وصفاً، وفي لحظة ما يغنّيها بلسان الجميع. وهنا يراودني السؤال: هل يا ترى كان الكاتب يدور في دائرة العالم الكونية ليخبرنا بأن كل الشعوب، توالدت من بعضها ولكنها لم تستطع التخلّص من إرث النزعات التي توارثتها من آلهتها الأولى؟

لعلّ القارئ في المطالع يرتبك وهو يحاول التقرّب بعمق من الشخوص، لكن الكاتب كان يفوّت الفرصة من خلال نقلاته السريعة وضخّ أحداث تجعل من رأس القارئ منشغلة بالأسئلة المشروعة، كالبحث عن القفلات!

فالأنثى في مروية أبو شقرة، كانت ممتلئة ومكتملة بجمالها وإغرائها وغنجها، ولكنه لم يتوانَ من تركها لتكون فاكهة المروية، التي يودّ الجميع قضمها! أليس هذا سلوكاً متوارثاً، بحيث تنكسر الصورة أعلاه، صورة الجمال، والغنج، وو أمام العقلية المحكومة بأن هذه الأنوثة كلها، محكومة برداء سمل يسمى «البكارى»؟

احتدام الأحداث ساعد كثيراً في تطوير الشخصيات ونموّها بفاعلية لغة الكاتب التي ذهبت عميقاً نحو الماضي العتيد وأمسكت من باب تالٍ بزمام الركب الحديث. على أرض المروية بقيت الأرض هي الأرض منذ عصر الفراعنة إلى تلك اللحظة، زمن الطوفان قائم.

فالتمازج والتداخل بين الحلم والواقع الحال، بين مرارة الماضي ومؤامراته وظلم الحاضر واستمرار خيانته، جسده الكاتب من خلال حركة الشخصيات وخاصياتها، فلم يوارب كيف صار عبدو المتولي بين عشية وضحاها غنياً، لم ينبه الفقير الذي يمشي على هداه مثل سمكة تدخل شبكة الصياد بإرادتها. وشيخ الجامع لم يكن في لحظة إلا مداً مستمرّاً للمفرز السائد اليوم، وكذلك تناقضات العمدة، الجبروت والعجز… إلخ. المروية من خلال محاكاتها ومحاورتها مع الأساطير البائدة، تستجرّ قارئها ومتخيّله نحو أماكن بعيدة للتفكّر بكل المنتاقضات التي طرحتها، والذهاب نحو الأسئلة الوجودية عن ماهية التواريخ والاعتقادات التي رسخت مفاهيم، العبودية، العذرية، الظلم وصولاً إلى القرابين التي توهب لتستمرّ كل تلك الفوضى التي اشتغل عليها الكاتب في مسرح الورق. خلط متعمّد لكل شيء، فقط للحصول على قفلة تؤكّد أنّ الخاسر وحده في كل هذه المعمعة هو أنا… أنا الإنسان… لأنني حلقة الحياة الأضعف. داود أبو شقرة، ترك علامة فارغة، حين جعل من «كفر نعمة» تلك البقعة، نقطة ارتكاز الأرض.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى