الدين والتديّن الملتبس!

نصّار ابراهيم

عندما يصبح العقل والإنسان وثقافة المجتمع في مرمى نيران الجهل والجهالة… في مثل هذه الحالة من الواجب والضرورة أن ينتفض المجتمع والنخب والثقافة لتحمي روح المجتمع من السقوط في متاهة التدمير الذاتي الأخلاقي والمعنوي والضحالة الفكرية والسلوكية مهما كانت الراية التي يمارس تحتها الفعل السياسي أو الاقتصادي أو الأيديولوجي أو الاجتماعي حضوره وفاعليته.

لقد قيل بأن السياسة من الخطورة بحيث لا يجوز تركها محصورة بأيدي السياسيين فقط، وقيل بأن الحرب من الخطورة بحيث لا يجوز إبقاؤها بين أيدي العسكريين فقط… كما قيل بأن الاقتصاد من الخطورة بحيث لا يجوز حصره بالاقتصاديين فقط… ويمكن القول بأن الدين من الخطورة بحيث لا يمكن حبسه في جلابيب رجال الدين فقط… ومعنى القول إن قضايا الشأن العام وأي فكر أو نشاط اجتماعي هو فعل ينعكس على مجمل حياة الناس، سواء من كان في دائرة ذلك الفعل المحدد والخاص أو كان خارجها… ولهذا فالمجتمع بكامله معني برسم حدود ومعايير التعامل والعلاقة مع ذلك الفكر أو النشاط الاجتماعي بحيث لا يتحوّل إلى قوة تدمير واستنزاف اجتماعي داخلي.

وليس المقصود هنا بالتأكيد الحجر على العقل وحرية الاختيار أو الإيمان الديني أو الانتماء السياسي، بل المقصود صياغة النواظم الصارمة التي تنظم العلاقة بين الناس في مجتمع ما وهم يمارسون قناعاتهم وعقائدهم وإيمانهم المرتبط بخياراتهم الأيديولوجية أو السياسية أو غيرها.

ولأنّ النقاش بهذا الشأن يشمل دوائر واسعة من الأيديولوجيات إلا أنني سأقتصر النقاش في هذه المقالة على ضرورة التمييز بين الدين والايمان الديني والتديّن الملتبس… وبالطبع ليس المقصود أو الهدف الخوض في الدين كقناعات وإيمان وحقول تشريعية أو فقهية… بل كيف يجري التعبير عن العلاقات والحريات والحقوق الاجتماعية والسلوك ارتباطاً بالدين.

نقطة الانطلاق الأولى أنّ الدين ليس حكراً على فئة أو جماعة مهما كانت درجة انتظامها، ذلك لأنّ الدين بقدر ما هو ظاهرة إلهية عند البعض فإنه عند آخرين ظاهرة اجتماعية تاريخية… وفي الحالتين فالدين ظاهرة تلقي بآثارها وفضائها على مجمل المجتمع سواء من آمن أو مَن لم يؤمن… ذلك لأنّ الدين ليس مجرّد طقوس وممارسات وشعائر ومشاعر بل هو أيضاً ظاهرة تنعكس في السلوك والثقافة والنواظم الاجتماعية بصورة عميقة.

فاليساري أو القومي أو العلماني مثلاً، والذين لهم مواقف ومقاربات خاصة تجاه الدين وفق قناعاتهم الفكرية والأيديولوجية لا يعني أنهم خارج تأثيرات الدين الثقافية والفكرية والاجتماعية حتى لو أرادوا ذلك… فالدين الإسلامي كما الدين المسيحي على سبيل المثال أو غيرهما من الأديان ليسا مجرّد صلاة وصوم وزكاة وحج وحدود وحلال وحرام و..و..و..و..و… بل هما أيضاً فضاء فكري وطريقة تفكير ومنظومات عقائدية تنعكس في الأدب والتراث واللغة والعادات والمعمار والفنون جميعاً… وبهذا المعنى يصبح الدين قوة سارية مثله مثل أية فلسفة أو أيديولوجيا تعيد صياغة علاقات وسلوك البشر… فهو ينعكس في كافة تفاصيل الحياة، من البنى التحتية وصولاً إلى البنى الفوقية للمجتمع.

وذات الشيء يمكن قوله بخصوص أية فلسفة غير دينية كالماركسية أو الوجودية أو الشك، فهي ليست مجرّد مواقف ومقاربات نظرية، بل هي رؤية ومنظومات تفكير وقيم تنعكس في الأدب والفنون والسلوك الاجتماعي والاقتصاد والسياسة، أي أنها تطال بتأثيراتها مجمل الكتلة الاجتماعية سواء من يعتقد بها أم لا.

وتزداد الأشكالية تعقيداً مع تطوّر البشرية حيث الثورة العلمية والتواصل والاتصال والتشابك والتداخل الاقتصادي الاجتماعي الثقافي… بحيث لم يعد أي مجتمع بمقدوره التطور أو الحركة بعيداً عن منظومة العلاقات المتشكلة كونياً… إنه عصر العولمة بإيجابياتها وسلبياتها… تطورات موضوعية عاصفة تلف الكون والبشرية وتمتدّ إلى الفضاء ومختلف العلوم… وهذا يعني بالضرورة إعادة صياغة علاقات البشر على تنوّعهم واختلافهم سياسياً ودينياً وفكرياً واجتماعياً ولغوياً وجغرافياً واقتصادياً وثقافياً.

في مثل هذا الواقع المتحرك والمتداخل والمتكامل بصورة هائلة… يصبح بمثابة الضرورة بناء علاقات المجتمع مع ذاته ومع مكوناته المختلفة ومع المجتمعات والأمم والشعوب الأخرى بطريقة ووفق أسس ناظمة لا تؤدّي إلى التناحر والفناء الذاتي… فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة، كما لا أحد بمقدوره العيش بمعزل عن غيره.

هنا بالضبط تتجلى أزمة وتحدّي الإسلام السياسي، أو أيّ تنظيم ديني سياسي… وقبل الخوض في النقاش من الهامّ هنا توضيح حدود هذا النقاش… فعند مناقشة الإسلام السياسي بما هو قوى سياسية اجتماعية منظمة تعتمد الفكر الديني كنقطة انطلاق للتعامل مع التحديات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات البشرية، فهذا لا يعني أنّ تلك القوى هي معادل للدين الإسلامي، أي بذات القدر الذي لا يشكل فيه الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني مثلاً معادلاً للمسيحية، وبالتالي فنقد تلك القوى وإخضاع برامجها وسلوكها واستراتيجيات عملها للنقاش والنقد الصارم لا يعني نقد الإسلام أو المسيحية كأديان بذاتها… فالإسلام والمسيحية وغيرهما هما مكوّن تاريخي وثقافي من مكونات المجتمع، وبهذا المعنى فإنني كمواطن في هذا المجتمع وبغض النظر عن قناعاتي السياسية والفكرية أعلن وبوضوح أنني لن أتخلى عن الدين الإسلامي أو عن المسيحية كمكون ثقافي ونفسي وروحي وأخلاقي وحضاري عضوي لأحد مهما كان… وبذات القدر يجري التعامل مع الموروث الإنساني الحضاري منذ إنسان الكهف الأول وحتى إنسان ناطحات السحاب في العصر الراهن، بمعنى أن الدين هو مكون عضوي في الثقافة والبنية الاجتماعية والنفسية للجماعات البشرية بغض النظر عن القناعات الإيمانية وممارسة الطقوس الدينية من عدمه.

انطلاقاً من ذلك فإنّ أيّ تنظيم أو حزب يتبنى الإيديولوجيا الدينية فإنه مجرّد تنظيم سياسي مثله مثل غيره من القوى والتنظيمات… ورفع راية الدين لا تعني ولا تعطي لأي تنظيم سياسي «ديني» الحصانة من النقد وإخضاع رؤيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتعامله مع تحديات الواقع للنقاش والتحليل والقبول والرفض… أي بذات القدر الذي لا تعني فيه إطالة اللحية وارتداء لباس الدين أو الكهنوت أي قيمة جدية مضافة للشخص ما لم يبرهن على ذلك بالسلوك والموقف.

هذه المسألة تحديداً تدفع بالنقاش نحو ضرورة التمييز بين الدين بما هو قناعات إيمانية عميقة وسلوك اجتماعي تهذيبي وعلاقة فردية وشخصية قيمية بين الإنسان وربه والتديّن الملتبس.

والتديّن الملتبس هو توسل وتمثل السلوك الديني الشكلي في المظهر والمغالاة في ذلك من أجل فرض حالة من الرهاب الفكري والاجتماعي انطلاقاً من العزف على الوتر الحساس في وعي الجماعة البشرية المرتبطة بعلاقة دينية إيمانية… والهدف هو قطع الطريق قسرياً أمام النقد وحرية التعبير وممارسة الحقوق الطبيعية للفرد والجماعة، وبهذا تخلق حالة من الأرهاب الفكري المستند إلى سطوة الدين من دون امتلاك القدرة العقلية على الإقناع.

وبهذا المعنى فإنّ التديّن الملتبس هو عملية إجهاض للفاعلية الذهنية بما في ذلك الاجتهاد العقلي العميق في التعامل مع ظواهر وأسئلة المجتمع اليومية شديدة التعقيد… ولكي يسود التدين الملتبس ويسيطر اجتماعياً فهو يدفع وبدأب نحو تعميم الجهل الاجتماعي كأفضل بيئة حاضنة للتدين الملتبس… ولهذا نجد أن التدين الملتبس هو تدين شكلي ميكانيكي…إنه يقوم على حرف النقاش والسلوك نحو السطحيات والشكليات بما يفقد الدين عمقه الإيماني التأملي الذي عادة ما يكون أي التأمّل نقطة البداية للتحوّلات الفكرية والفلسفية، وبهذا لم يكن صدفة انعزال الرسول في غار حراء، واعتزال المسيح في الصحراء لمدة أربعين يوما…

ومن أخطر انعكاسات ووظائف التديّن الملتبس تعطيل العقل النقدي، ولهذا فهو يميل دائماً إلى تعميم السلوكيات الطقسية كأداة سيطرة وكبح انفعال وتفاعل العقل… والأخطر استخدام كل ذلك لانتزاع مكانة أو هيبة موهومة… ومن الأمثلة على التديّن الملتبس المغالاة والتطرف في أنماط اللباس والتركيز على تفاصيل حركة وسلوك الإنسان وامتلاك الحق بالتطاول على الآخرين بحجة الدفاع عن الدين وكيفية المشي والجلوس والقيام والقعود، والأخطر القيود المفروضة على المرأة على مختلف المستويات.

ولكشف الفارق بين الدين الفعلي والتديّن الملتبس يكفي فقط كشف التناقض بين السلوك الحياتي العميق والحقيقي في المعاملات والأدوار والوظائف الاجتماعية للتديّن الملتبس ومظاهر التديّن الشكلي في الجانب الديني… يكفي أن نلاحظ النفاق والكذب والخداع والغيبة التي لا تتسق مع روح الدين العميق.

وبهذا المعنى فأن يصلي شخص ما أو يصوم أو يطيل لحيته أو يقصرها فهذا شأن خاص به، ولا يعطيه أي خصوصية أو سلطة لتحديد مواقف وسلوك الآخرين والحكم المعياري عليهم… من دون أن يعني هذا الموقف انتقاصاً من حرية الاختيار والتعبّد واحترام الدين والشعائر الدينية، ولكن بشرط ترجمة هذا السلوك الإيماني في سلوك اجتماعي متناغم يقوم على احترام الآخرين، والأهم احترام الدور الاجتماعي وعدم إلحاق الأذى والضرر بالمصلحة العامة والوظيفة العامة.

إذن يجب احترام شعائر وقناعات الناس الدينية، ولكن بشرط أن تجري ممارسة تلك الشعائر بما لا يتخطى حدود الجانب الإيماني الطبيعي، وأن لا يتحوّل التديّن إلى سلطة رمزية تبيح الاستهتار بالآخرين وحقوقهم ومعاملاتهم ووقتهم وكأن المتديّن الملتبس محمي من الله… أو كأنه يقوم بذلك باسم الله… وهذا تجاوز لمعنى الدين العميق أي الدين الإنساني الطبيعي.

ومثال آخر على استغلال سلطة التديّن الملتبس يتجلى في احتكار وحق الحديث والوعظ على جماعة في لقاء عام، وذلك فقط لأن من يتكلم يتخذ دائماً من الدين موضوعاً للحديث بمناسبة وغير مناسبة وبمعزل عن صحة ما يقول من عدمه فهو دائماً يتقمّص دور الواعظ مطلق الصلاحية… وكأن له حق إلهي وما على الجماعة سوى الصمت والإصغاء سواء رغبت في ذلك أم لم ترغب… والأدهى في مثل هذه الحالة أنّ كثيراً من المستمعين يعرفون أنه يكذب ومع ذلك يصمتون خوفاً من الصدام مع الحالة الرمزية التي يلتبّسها هذا الفرد باسم الدين…

خلاصة القول إنّ الدين ليس أداة أو وسيلة للسيطرة والقهر بل هو فكر وفضاء وممارسة تقوم على التفاعل والاحترام حتى مع من يختلف مع المقاربات الدينية، وغير ذلك هو الضياع والقطع مع المجتمع والصيرورات التاريخية لبناء المجتمعات.

تأسيساً على ما تقدم يصبح تحديد أسس ونواظم العقد الاجتماعي الذي يحدّد علاقة البشر وأدوراهم ووظائفهم ضرورة وجودية بكلّ معنى الكلمة… بمعنى أنّ لكلّ فرد أو جماعة الحرية بممارسة حياتها وخياراتها وقناعاتها السياسية والاجتماعية والدينية بشرط أن لا تشكل حجزاً أو انتهاكاً لحقوق وقناعات الآخرين… ومن يبح لنفسه انتهاك حرية وحقوق الآخرين فعليه أن يتوقع رداً وسلوكاً مماثلاً، الأمر الذي يدخل المجتمع والجماعة في دوائر التآكل والتناقض والتناحر الذاتي الداخلي.

إذن إحدى جذور المعضلات التي نواجهها اليوم تكمن في سيادة وهيمنة التوحش الفكري الملتبس باسم الدين الأمر الذي يبيح للجهل بمجرّد أن يطيل اللحية ويرتدي العمة أن يطلق يديه قتلاً وتنكيلاً باسم الدين الإسلامي وذات الشيء ينطبق على من يمارس ذات السلوك باسم أي دين أو قناعة أييولوجية أخرى فيكفّر ويخوّن ويقيم الحدود ويدمّر ويفتي ويقطع الرؤوس وكأنه ملاك الموت المرسل من ربّ العالمين، أيّ دين هذا الذي يبيح سوْق نساء العراق في القرن الواحد والعشرين سبايا؟ ويبيح تهجير وذبح المؤمنين بأديان أخرى؟ أو يتبعون مذاهب أخرى؟ وأي دين هذا الذي يستهدف تدمير التراث والأضرحة والأوابد التاريخية بحجة أنها من الأوثان ومن ممارسات الشرك…؟ ألم تكن معابد بوذا في أفغانستان والأهرامات في مصر موجودة منذ أيام المسلمين الأوائل وكذا حدائق بابل وغيرها…؟ ألم يكن البيت العتيق بيت إبراهيم عليه السلام موجوداً ولا يزال…؟ كيف يحدث كلّ هذا ولا تحرك المجتمعات ساكناً لتحمي دينها وتاريخها وحضارتها…؟ وفي الحقيقة لقد دمّرت قوى الإرهاب والقتل الدين الإسلامي وعاثت فيه خراباً بحيث سنكون بحاجة إلى عقود أو قرون لكي يستعيد هذا الدين روحه ودوره…

وهنا لا تبرير ولا مجال لفهم موقف أي «تنظيم سياسي إسلامي» يقف صامتاً أمام هذه الأهوال ولا يهبّ مدافعاً عن الإسلام الذي ينتهك وتنتزع منه إنسانيته ورحمته باسم الخلافة أو باسم أمير المؤمنين أو باسم الجهاد، فحقوق الإنسان وكرامته وحريته ليست شأناً مؤجلاً إلى يوم القيامة… فلم يقل الله جلّ جلاله ذلك كما لم يقل ذلك الأنبياء.

هي لحظة تاريخية ساحقة لم يعد يجدي معها الصمت والانحناء والمداورة والمراوغة والمساومة، مما يستدعي التصدي للتديّن الشكلي الملتبس الفاقد لعمقه وروحه وإنسانيته، التديّن المشغول بالشكليات والتفاصيل المملة والمهينة على حساب الجوهر… ذلك لأنّ أيّ مساومة على حق الإنسان في الحياة وفي الحرية وفي الوجود باسم الدين هي بداية الفناء الروحي وفقدان أي دين لروحه ومعناه ووظيفته الأولى. أي بذات القدر الذي تفقد فيه أي فلسفة أو فكر أو ثقافة أو أيديولوجية عمقها وروحها ما أن تصمت عند المساس بركائزها الإنسانية أو تساوم عليها، فكلّ الأيديولوجيات بما في ذلك الإيمان بالله هدفها خير البشرية والإنسان، هكذا تقول… فالله ليس بحاجة لصلاة وصيام أحد من حيث المبدأ… إنه يطلب ذلك كي يحترم الإنسان ذاته وعقله وإنسانيته أولاً وعاشراً… هكذا أرى الأمر والله أعلم!

وبهذا المعنى وفي هذه السياقات ستبقى صرخة عمر بن الخطاب الخالدة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ هي ركيزة المواطنة والمساواة والحرية والناظم لعلاقات البشر… هكذا أرى الأمر والله أعلم مرة أخرى!

صفحة الكاتب:

https://www.facebook.com/pages/Nassar-Ibrahim/267544203407374

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى