فرصة لبنان للتحرّر من التبعيّة الاقتصادية للخارج؟
محمد حميّة
لم تعد المقاربة الداخليّة للعلاقات اللبنانيّة السوريّة كما كانت عليه في السابق، معطيات ومعادلات محلّية وإقليميّة ودولية كثيرة تغيّرت، فسورية اليوم ليست سورية عام 2005 حينما تعرّضت لأقصى أنواع الضغوط الدولية واتُّهمت باغتيال الرئيس رفيق الحريري ووضع سيف المحكمة الدولية على عنقها في ذروة اندفاعة المشروع الأميركي في المنطقة. وبلاد الشام، التي تخرج الآن منتصرة بعد ست سنوات من الحرب، ليست نفسها مع بداية الأزمة عام 2012 حيث ما يُسمّى «ثورات الربيع العربي» كانت في أوجها.
مع تطوّر الأحداث الأمنيّة في سورية، اتّخذت الحكومة اللبنانيّة آنذاك قرار «النأي بالنفس»، لكنّها لم تحول دون تورّط بعض الأطراف المحلّيين في الأزمة، من خلال تحويل الحدود بين البلدين إلى قاعدة خلفيّة للإرهاب لضرب العمق السوريّ، وما باخرة لطف الله 1 و2 ومجموعة تلكلخ و«مساعدات» النائب عقاب صقر للنازحين إلّا بعض الأدلّة.
بالتأكيد لم ينجح مبدأ «حياد لبنان» ولا سياسة «النأي بالنفس» في تحرير الجرود اللبنانية من الإرهاب وتوفير الحماية الأمنيّة للداخل، بل تمدّد بغطاءٍ سياسيّ وأمنيّ داخليّ وصل حدّ احتلال مدينة عرسال والاعتداء على الجيش والقوى الأمنيّة والمدنيّين، وتنفيذ عمليات أمنيّة في أكثر من منطقة، كما شُرّعت الأبواب أمام تدفّق ملايين النازحين السوريّين الذين تحوّلوا إلى قنبلة أمنيّة واقتصاديّة واجتماعيّة معدّة للانفجار في أيّة لحظة، وتركت آثاراً كارثيّة على الاقتصاد اللبناني يعيش تداعياتها اللبنانيّون كلّ يوم، لكن هل نجحت سياسة «النأي» التي يصرّ عليها الفريق الآخر في إنقاذ لبنان من الأزمة الاقتصاديّة القائمة أو الحدّ منها؟ وهل تخرجنا من التبعيّة الاقتصادية والماليّة للخارج ومن الابتزاز بالتهديد المستمرّ بالعقوبات الماليّة؟
الإجابة عن هذا السؤال تستوجب المقارنة بين علاقة فريق المقاومة مع حلفائه السوريّين والإيرانيين، وبين علاقة فريق 14 آذار مع «حلفائهم» الأميركيّين والخليجيّين فعلاقة الاول استراتيجيّة، فقد نجح في تثميرها لمصلحة لبنان، إنْ كان في تحرير الجنوب من الاحتلال «الإسرائيلي» العام 2000 وانتصار تموز 2006 وحماية البلد من أيّ عدوان جديد ودفع الخطر الإرهابي عنه، كما في توفير الكثير من الحاجات الاقتصاديّة لا سيّما خلال الأزمة في سورية، التي كان بإمكانها معاقبة لبنان ومعاملته بالمثل، وأمّا علاقة الثاني فتبعيّة وتحكمها المصالح والمشاريع الأميركيّة في المنطقة، فأين استطاع هذا الفريق استثمار علاقته مع «حلفائه» لمصلحة لبنان؟ والعكس هو الصحيح، فقد ساهم مع الخارج في ضرب المصالح الوطنيّة وإضعاف أوراق القوّة والمناعة الداخليّة، أين هبة الـ4 مليارات دولار السعوديّة للجيش والقوى الأمنيّة؟ والمساعدات العسكريّة الأميركية للجيش؟ لولا المخاوف الأميركيّة من تنسيق الجيش اللبناني مع المقاومة والجيش السوري في المعركة ضدّ «داعش»، لما سلّمت أميركا الجيش بعض الآليّات العسكرية منذ أيام.
هل حقّقت سياسة «النأي» التي ابتدعت لتحقيق أهداف خارجيّة، توفير حاجة لبنان في الأمن والكهرباء والزراعة والصناعة وغيرها؟ لماذا لم تبادر الدول الحريصة على مبدأ «الحياد»، والتي منعت لبنان من التنسيق مع سورية، إلى المساعدة في حلّ أزمة الكهرباء وتوفير الخدمات التي توفّرها سورية وبالسعر الذي تعرضه؟ لا سيّما على صعيد أزمة الكهرباء، حيث أبلغ رئيس الحكومة السوريّة وزير الزراعة غازي زعيتر أمس، استعداد سورية لتزويد لبنان بـ500 ميغاواط إضافيّة بأسعار أقلّ من سعر البواخر.
إنّ اتّهام «الآذاريّين» فريق المقاومة بالسّعي إلى تطبيع العلاقة مع النظام السوري، يفترض البحث عن الفائدة الخاصّة التي يجنيها هذا الفريق من «التطبيع»، بل هو يستثمر العلاقة مع حليفه السوريّ لمصلحة وطنيّة، في حين أنّ حاجاته من السلاح والإمداد اللوجستي التي هي مصلحة لبنانية أيضاً، حاصل عليها حتى في زمن ما يُسمّى الوصاية السوريّة التي استفاد منها الفريق «الآذاري» لتحقيق مصالحه السياسيّة والانتخابيّة والماديّة.
أمّا مصطلح «تطبيع»، فهو مخالف للمفهوم القانونيّ السائد في العلاقات بين الدول، وبعيداً عن مواقف الأطراف من نظامها، هل تحوّلت سورية إلى دولة عدوّة كي نطبّع معها؟ إذا كانت كذلك، لماذا وافق لبنان على فتح سفارة سورية في بيروت وتعيين السفير اللبنانيّ في دمشق سعيد زخيا منذ أسابيع قليلة؟ فهل تُقام العلاقات الدبلوماسيّة بَين دول أعداء؟ لماذا لم يضع وزراء ونوّاب «القوّات» و«المستقبل» استقالاتهم على الطاولة للضغط على الحكومة لإنهاء مهمّة السفير السوري وسحب السفير اللبناني؟ ولماذا لم يبادر نوّاب الفريق نفسه إلى تقديم اقتراح قانون إلى المجلس النيابيّ لنقض الاتفاقات والمعاهدات المشتركة بين البلدين التي تحقّق المصالح اللبنانيّة؟
مع انطلاق عهد جديد في لبنان وحكومة جديدة، وفي ضوء التطوّرات السياسية والعسكريّة على الساحة السوريّة، التي تصبّ في مصلحة النظام ومحور المقاومة، وفي ظلّ الانفتاح السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ العالميّ على سورية للاستعداد لمرحلة إعادة الإعمار الذي بدأت طلائعه تظهر مع افتتاح معرض دمشق الدولي، هل بإمكان لبنان أن يُبقي أبوابه مغلقة أمام سورية؟ وهل ستستمرّ بعض القوى الحكوميّة في القفز فوق مصالح لبنان وتفويت فرصة ذهبيّة تاريخية لتحقيق النهوض والاستقلال الاقتصادي والتخلّص من التبعيّة للخارج؟
ليس المطلوب من رئيس الحكومة أو فريقه السياسي تغيير مواقفهم من سورية، بل المطلوب الفصل بين الموقف السياسيّ وبين التنسيق الاقتصاديّ والعسكريّ والأمنيّ بين الحكومتَيْن، والتي تصبّ في مصلحة لبنان أولاً، فليحتفظ كلّ فريق بموقفه من دول المحاور، ولتكن العلاقة مع سورية وفق ما تقتضيه المصلحة اللبنانيّة هي القاسم المشترك بين الجميع، طالما أنّ فريق المقاومة يتبرّع بحكم عمق ومتانة التحالف مع القيادة السورية على توفير ما يحتاجه لبنان من سورية، وبأقلّ الأثمان، ولا يتطلّب ذلك تنازلاً سياسياً من قِبل الفريق الآخر. وما الذي يمنع أن تكون زيارة الوفد الوزاريّ إلى دمشق بداية لإعادة تصحيح العلاقات من الشوائب للبناء عليها لتطوير العلاقات الاقتصادية مع سورية، للتخلّص تدريجياً من التبعيّة الاقتصادية للخارج!
لن تتعاطى سورية مع لبنان بالمثل وبمنطق النكايات السياسية، كما تقول مصادر دبلوماسيّة سوريّة معنيّة بالعلاقة بين البلدين لـ«البناء»، فهي تنظر إليه على أنّه البلد الجار والشقيق، وبأنّ عهداً جديداً قد بزغ من رحم انتصارات المقاومة، وهي تحتفظ بعلاقة خاصّة ورمزيّة معبّدة بالدماء لمكوّنات لبنانيّة قاتلت وصمدت كتفاً إلى كتف مع الجيش والدولة والشعب في سورية على امتداد الجبهات السورية، ومقابل الدماء تصغر الخدمات، ولا تخفي المصادر نفسها تقديرها وثقتها بالرئيس عون ومواقفه الدّاعمة لسورية، التي لم تتبدّل قبل الحرب ولا بعدها، و«هو الذي كان يسأل زائره السوريّ عن معركة حلب قبل انتخابه رئيساً للجمهورية بيوم واحد».
وعن تسامح سورية مع بعض القيادات اللبنانيّة، الذين أساؤوا إليها، ترفض المصادر الإجابة، غير أنّها تؤكّد بأنّ «سورية تعرف من تآمر عليها، وأساء إلى شعبها وجيشها وعطّل الكثير من القضايا القوميّة، لكن لا تريد الانتقام وتميّز بين من اعتدى عليها وبين الشعب اللبنانيّ الشقيق».