النازية الجديدة وضرورة قيام «جيستا» عالمي
د. رائد المصري
يقيني أنَّ العالم الإمبريالي الذي بنتْه المنظومة الأميركية الاستعمارية من خلال ظهور مصطلحات كالنظام العالمي الجديد والعولمة والليبرالية الجديدة واقتصاد السوق والفوضى الخلاقة والثورات الملوَّنة منذ سنوات، والذي لم يولد إلاَّ ضمن استراتيجية استعمارية غربية خطَّطت لإخضاع العالم، قد أدَّت إلى الفوضى العالمية وإلى استقطابات حادة بلغت مبلغاً خطيراً ربَّما ستكون تداعياته أكبر على الداخل في الولايات المتحدة الأميركية بعد وصول رئيس يميني أبيض مُشْبع بالنفَس العنصري الحاقد تجاه الآخرين، وهو ما ترجمته سياساته التي لم يمرّ عليها أشهر قليلة.
وعليه وبإعلان صمويل هينتنغتون عن افتتاحه لمرحلة صراع الأديان والحضارات والتي تم تحديد طرفي صراعها بالغرب والإسلام، لم يكن يومها يعكس إلاَّ رؤية استراتيجية أميركية. فكانت العمليات الإرهابية الكبيرة غالباً ما تسبق الغزوات الأميركية والغربية ضد دول عربية وإفريقية أو دول من العالم الفقير المعدم..
وبديهي أنَّ منطوق العولمة الأميركية بكلِّ مندرجاتها التي فُرضت بالآلة العسكرية على العالم منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً، قد سمحت بإعادة تكوين وخلط مفاهيم لبناء الخصوصيات الذاتية للشعوب وإظهارها على السطح بشكلٍ حادّ وعنيف. وهي الحالة التي أَوْصلت العالم كلَّه الى مرحلة الحروب البينية والاستقطابات العنفية والتي لا يُمكن معها بناء المستقبل الآمن، وبالمناسبة نحن هنا لا ننْكرُ حقَّ هذه الخصوصيات في تمثيلها وحفظها وتفاعلاتها مع غيرها من المجتمعات، لكنا نؤشِّر لحالات الهدم للمنطق التاريخي الذي يحكُم مفاهيم وأسُس بناء الدول والكيانات الوستفالية نسبة إلى مؤتمر وستفاليا عام 1648 ، لكونها شكَّلت أكبر عملية بناء سياسي لأنظمة مستقرَّة وهادئة وآمنة وبعيدة نسبياً عن الدولة العالمية التي كان يحلم بها المصرفيون الأميركيون والرأسماليون الجُدد في وول ستريت ومالكو البنوك الدولية بالحديث والعمل على إنشاء دولة بمركز واحد ونظام واحد وبرلمان واحد وعملة واحدة تُؤبِّدهم سادة مطلقين على العالم.
اليوم وبعد كلِّ هذه المنجزات الغربية المعولمة القاتلة التي وفَّرت المناخ الملائم للفورات التكفيرية كجزء من تعبير عن الذات والخصوصية العمياء، هدمت المنظومة الاستعمارية الغربية والأميركية بُنية الدول، وضربت أنسجتها الاجتماعية وباعدت بين شعوبها، يخوض الغرب ودول الاستعمار الكلاسيكية حرباً على الإرهاب كان قد أنتجه بنفسه، بعد أن أصبح وسيلته المفضَّلة لتبرير التدخُّل والهيمنة والنَّهب المنظَّم في البلاد العربية والإسلامية والإفريقية، فأصبح الإرهاب متنقلاًً في أوروبا، ليس كردَّة فعل تقوم بها تنظيماته كداعش كما يروّج الإعلام الممسوك، بل من أجل إثارة الغرائز وتأجيج الكراهية، ومن أجل تبرير الهجمات اللاحقة لإسقاط أنظمة لا تدور في الفلك الغربي الاستعماري. وهنا ما يلفتنا أنَّ العملية الإرهابية تنفذ بحرفية ويُقتل الفاعل وتختفي الأدلة، ليخرج المسؤولون والقادة والنُّخب السياسية على الشاشات ويتحدثون عن الإرهاب الإسلامي في سيناريو ممجوج يتكرّر في كل مرّة متناسين الإرهاب العنصري ونازيته الجديدة التي بدأت تنتشر في أميركا وغير دولة.
ما نودُّ اختصاره في هذه المشهدية المؤلمة، هو أنَّ هذه الآفة الإرهابية في طريقها نحو الاندحار، سواء في سورية التي بدأت تتعافى نسبياً وتأخذ طريقها الى الحلِّ السياسي وكان عنوانها قيام معرض دمشق الدولي، أو لبنان الذي يخوض أبطاله في الجيش والمقاومة أكبر ملاحم الانتصار على الإرهاب العالمي في تجسيد قوي لبناء دولة متماسكة برئيس مقاوم وشجاع ومحاسِب، أو في العراق الذي شكَّل بناء أول منظومة تلاحم بين الجيش والحشد الشعبي في قرار سياسي موحَّد ومستقل وبعيدٍ عن التأثيرات والتدخلات الخارجية، وكل هذه التطورات المتسارعة والإنجازات العسكرية والانهيارات السريعة لمنظومة الإرهاب الوظيفي بيد الاستعمار الأميركي المعولم، يجعلنا نتساءل حول إمكانية محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم المرتكبة بحق الشعوب،حتى لو كانت محاسبة عالمية فهناك مسؤولية جنائية ارتكبتها الشركات العابرة للقارات التي لا يشبعها شيء، وكذلك النظام الرأسمالي الذي صمِّم كمطلبٍ لجشع طبقة ناهبة استخدمت الفكر المتطرِّف سبيلاً لتحقيق أهدافها.
إنَّ مشكلة الإرهاب أعمق من كلِّ تلك المبررات التي يكرّرها الإعلام العالمي المقيَّد والمُسيَّر، فالمشكلة تكمن في العقل الاستراتيجي الأميركي الذي يريد إعادة تشكيل العالم، بعيداً عن الإنسانية ومن دون الالتفات لحجم المعاناة والدمار والقتل وتشريد الشعوب الفقيرة، بعد أن سلبها مدخراتها المالية في سياسات تقشفية ابتزازية سطت وقرصنت البنوك والأموال، فأرادوا تطويعهم عبر الإرهاب وعملياته في أوروبا والبلدان الآمنة، بعد أن عجزوا عن تفتيت دولنا المشرقية وإعادة تركيبها وفق مشيئتهم.
نعم لا بدَّ من قانون محسابة كـ «جيستا» عالمي أو حتى عربي يقيم العدل والقسط ويُدفِّع الثمن لهؤلاء القَتَلَة والمأجورين حتى لو كانوا بحجم دول، لأننا هنا نتحدث عن إرهاب دول بعينها. وهو ما يدلُّنا بوضوح الى المسار الخاطئ الذي بدأته أميركا عبر اصطفاف اليمين العنصري وبروزه بشكل حاد، ممَّا قد يؤدِّي الى حرب أهلية أميركية إذا ثبت عدم أهلية الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد إخضاعه للجنة فحص طبي مؤلفة من ثلاثين طبيباً لتولي سدة رئاسة أكبر دولة في العالم…
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية