حزب اللَّه عُقدة «إسرائيليّة» وعقيدة استراتيجيّة

د. سمير الخطيب

لقد استطاع الغرب المسيحي الذي عاش تاريخاً طويلاً من التشدّد وعجزاً دائماً في التعايش مع الآخر، أن يولّد مجتمعات تحترم حرية التعبير، في حين أنّ العالم الإسلامي والذي لطالما مارس التسامح يبدو اليوم معقلاً للتطرف الديني، وذلك مردُّه حسب اعتقادي إلى الفشل المريع للمرجعيات الدينية وعدم جرأتها على التصدّي والتخلص من الموروثات والمتناقضات التاريخية وإيجاد صيغ للتقارب بين أبناء الدين والوطن الواحد.

لست ممّن يدعم أو يناصر أيّ جهة ذات طابع فئوي أو مذهبي أو طائفي، لأنني أؤمن أنه من واجبنا مواجهة ما يعتقده البعض أفكاراً مقدّسة لا تقبل الجدل أو التأويل ووجوب طرح أفكار علمانية وديمقراطية بما تتضمّنه من حاجة إلى الروحانيات. وهذا يحتاج إلى مراحل طويلة وجرعات خفيفة ومتواصلة للحدّ من التطرف الأعمى ومواجهة الأصولية الإسلامية التكفيرية التي سجلت عبر تاريخها الأسود كلّ أنواع العمالة والسقوط الأخلاقي والإنساني، بدءاً من الإخوان والوهابية والقاعدة وداعش وجبهة النصرة والقائمة تطول… ولم يسجَّل لهذه التنظيمات أنها سعت أو واجهت «إسرائيل» العدو الحقيقي للأمة بل في كثير من الأحيان تحالفت معها.

وحدها تجربة حزب الله تستدعي التوقف عندها باعتباره شخَّص القضية وحللها بعمق واعتبر منذ نشأته عام 1982 خياره وأولويته المطلقة مقاومة الكيان الصهيوني المجرم والغاصب والمتسبّب بكلّ مآسي هذه الأمة، وتلازمت ولادة هذا الحزب مع ولادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ووجود القوات السورية في لبنان الأمر الذي وفّر له سنداً إقليمياً إيدولوجياً وسياسياً ومادياً، فنجح في ضوء إعلانه حركة مقاومة ضدّ الاحتلال في توظيف الممانعة الشيعية وهي سيكولوجيا تاريخية ممزوجة بالإفقار والألم والمعاناة، معتبراً أنّ النموذج الحسيني الكربلائي بما يملك من مخزون تاريخي هو إحدى نقاط القوة في هذا الحزب، فحقق نصراً وتحريراً للبنان عام 2000 مما أعطى الحزب قوة تجاوزت الحالة الشيعية وحوّلته رقماً صعباً في المعادلتين اللبنانية والإقليمية مستثمراً الوعي التاريخي الشيعي في سبيل تطوير نموذج مقاوم متميّز.

وقد عمل الحزب بعد التحرير على تعزيز مجموعة النقاط الأساسية التالية:

1 ـ القدرة على التحشيد والتنظيم والتعبئة في زمن قياسي تعجز عنه حتى الدول المتطوّرة والقوية عسكرياً. وهذا يدلل على الثقة المطلقة بقيادة هذا الحزب وخياراته الصائبة على الصعد والمستويات كافة.

2 ـ امتلاك الحزب الأسلحة المتطورة.

3 ـ تطوير حالة الاستقطاب الشعبي حيث باتت للحزب مؤسسات خدمية وثقافية مختلفة الاتجاهات والأهداف مما جعله يسجل حضوراً مدنياً متميّزاً.

4 ـ استمرار الدعم الإقليمي السوري الإيراني بشكل متواتر.

كلّ ذلك مردّه إلى الذهنية القيادية المتميّزة والفريدة التي فرضت نفسها كقوة عسكرية وفكرية وسياسية ونالت الاحترام حتى من أعدائها، رغم أنها أذاقتهم طعم الهزيمة والاندحار.

لقد رأت القوى الخارجية في حزب الله عدواً متنامياً لـ»إسرائيل» وخروجاً عن مصالحها، كما رأت بعض القوى في الداخل اللبناني المرتبطة بآل سعود والغرب أنه يشكل خللاً في التوازنات الطائفية، فتقاطعت مصالح الداخل مع الخارج وعملوا على محاولة إضعاف الحزب بإصدار القرار 1559 وانسحاب الجيش السوري من لبنان. فحاول البعض حصر الحزب ضمن المعادلة الطائفية الضيقة وتوازناتها، إلا أنه نجح في تجاوز كلّ التوازنات الطائفية والتسويات الظرفية للأزمات المتتالية وحسم خياره في الاندماج الكلي في مشروع الدولة الوطنية بما يحفظ حجمه ويؤمّن استمرار مقاومته، ومذكرة التفاهم بين الحزب والتيار الوطني الحر هي مدخل لإنتاج صيغة ميثاقية جامعة اعتمدها الحزب كمنهج مستمرّ له، وما يجري حالياً في جرود عرسال والقاع ورأس بعلبك إنما يدلل على الحسّ الوطني للحزب تجاه الدولة الوطنية وحقوق أبنائها، لا سيما أنّ قيادة الحزب وعلى رأسها السيد حسن نصرالله استطاعت أن تخلق توازناً بين البعد الوطني والقومي والإسلامي، والابتعاد عن الفساد والغرور والاعتداء على الناس والمؤسسات الرسمية، وأظهرت انضباطاً عالياً قلّ نظيره بعد كلّ ما حققه من انتصارات وإنجازات عجزت عنها الدول العربية.

وكانت حرب تموز عام 2006 حرباً مفصلية في تاريخ الصراع العربي الصهيوني كما وصفها رئيس وزراء الكيان الصهيوني إيهود أولمرت، حيث قال: الشرق الأوسط بعد الحرب لن يكون كما قبلها . لقد كانت لهذه الحرب ارتدادات كبيرة على «إسرائيل» وقياداتها وجاءت نتائج تحقيق لجنة فينوغراد الشهيرة لتؤكد إخفاق الجيش الصهيوني. وعلى إثر التحقيق الأولي لتلك اللجنة استقال وزير الدفاع عمير بيريتس ورئيس الأركان الجنرال دان حالوتس وقائد الجبهة الشمالية الجنرال عودي آدم وغيرهم.

إنّ حالة الإرباك والتخبّط التي أصابت هذا الكيان جعلته لا يتوقف عن استخلاص العبر من الحرب ورسم السيناريوات المفترضة للحرب المقبلة التي ستحدث دماراً غير مسبوق في العمق «الإسرائيلي»، لا سيما أنّ صورة الردع «الإسرائيلي» قد تآكلت وبتنا نسمع اليوم ولأول مرة أنّ «إسرائيل» تحتفظ بما تسمّيه «حق الردّ» على المقاومة بعد حادثة 1/1/2015 بعد كمين شبعا ومقتل الضابطين «الإسرائيليين» وباتت ندّية المواجهة بين المقاومة و»إسرائيل» أمراً واقعاً جعل المؤسسة العسكرية الصهيونية في حالة انقسام حول طبيعة الحرب المقبلة إنْ كانت جوية أم برية وجوية معاً وجدوى الخيارين.

كتب المحلل العسكري رون بن يشاي تحت عنوان «خطة نصرالله»، مشيراً إلى إتقان سيد المقاومة للغة العبريّة وأنّ الحزب سيوجه ضربة صاروخية ثقيلة ودقيقة وسيطلق صواريخ أم 600 حصل عليها من سورية وسيوقع عدداً كبيراً من أفراد الجيش «الإسرائيلي» قتلى أثناء محاولتهم دخول الأراضي اللبنانية بمختلف الوسائل وسوف يسقط طائرات ويغرق سفناً وسيدفع قوات حزب الله لتنفيذ عمليات اقتحام داخل الأراضي المحتلة.

وكتبت صحيفة «جيروزاليم بوست» أنّ «إسرائيل» تضع خطة لإجلاء مئات الآلاف من المستوطنين في الجليل قرب الحدود اللبنانية، لأنها تعتبر حزب الله أكثر خطراً من أيّ وقت مضى، وسيطلق ألفي صاروخ في اليوم الأول، إذن العدو يدرك أن لدى حزب الله قدرات استراتيجية وهو يملك الشجاعة والإرادة لتفعيل هذه القدرات عندما تقتضي الحاجة. وهذا هو أحد أهمّ مقومات الردع المتبادل الذي وفر عمقاً استراتيجياً لحزب الله ولبنان.

إنّ حزباً فرض معادلة عاصمة بعاصمة ومدينة بمدينة واعتداء بردِّ اعتداء والتزم المقاومة شعاراً وفعلاً، وواجه أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط هو ظاهرة وأمثولة لكلّ شعوب الأرض المظلومة، وتستحق منّا أن ننحني لها ولدماء شهدائها الطاهرة، فهم رمز للتضحية والشرف والعزة والكرامة وكلّ نصر والمقاومة وقائدها بألف خير…

عضو مجلس الشعب السوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى