إلى الأردن: كلمة من الضفة الأخرى للنهر… ولكن بلغة مختلفة!
نصار إبراهيم
هذه الكلمة أو المقالة أو الرسالة إنْ جاز التعبير، أو لتكن ما تكون، تخاطب الجميع في الأردن من دون استثناء، أيّ من دون تقديم أو تأخير، من دون تفضيل أو تقليل، من دون تورية أو تشبيه أو مجاز، كما من دون رفع أو نصب أو جرّ… فكرتها واضحة تماماً: من الوعي والقلب هنا، إلى الوعي والقلب هناك.. كما أنّ طريقها واضحة تماماً أيضاً، فهي لا تتجاوز العشرة أمتار هي عرض نهر يسقي الأرض هنا وهناك منذ الأزل.. ومع ذلك أتمنى أن لا تضلّ الطريق، فيقرأها البعض، سواء من هنا أو من هناك، على غير ما هي عليه بالضبط.
بين وقت وآخر.. تطفو على سطح الوعي والخطاب أحاديث وكتابات وهمسات تقوم بوعي أو من دونه بتقسيم وتصنيف الشعب الأردني إلى «طبقات»: هذا شرق أردني، وهذا فلسطيني أو ذو أصول فلسطينية، وهذا شركسي.. وهذا درزي، وأحياناً في لحظة أخرى تذهب الأحاديث أبعد قليلاً: هذا بدوي وهذا مديني، هذا من الجنوب وهذا من الشمال.. يحدث ذلك حين ترتبك السياسة أو حين تستهدف شدّ عصبية ما لكي تذهب نحو خيار ما، حينها يتم استدعاء بعض الأحداث وبعض الظواهر العابرة لكي تعزّز ثقافة التقسيم والتصنيف…
وقد يحدث هذا أحياناً بسبب ردود فعل نزقة، بسبب مبارة كرة قدم مثلاً أو بسبب حادثة في جامعة أو بسبب اعتداء ما.. أقول هذا من دون أن يعني أنه يحدث فقط في الأردن، فهنا أيضاً في فلسطين يحدث الشيء ذاته، كما في أكثر من مجتمع عربي.
غير أنني هنا أتحدث عن الأردن بصورة خاصة ذلك لأنه شكل حاضنة الانصهار المدهشة بين «الأردنيين والفلسطينيين» أي بما يشبه طحين القمح حين تعجنه الأمهات هنا أستخدم هذا التعبير بتحفُّظ شديد، وفقط من أجل توضيح الفكرة لا أكثر، ومن دون التقليل من مكانة التكوينات الأخرى التي استقبلها الأردن عبر التاريخ .
أقول ذلك لأنه وفي كلّ مرة تُطرح أو تُلقى فكرة سياسية من هنا أو من هناك، من هذا الطرف أو ذاك، سواء بهدف الاختبار أو الترويج أو فقط لاستفزاز المجتمع وإشغاله بذاته.. نجد أنفسنا أمام أصوات وتنظيرات والتباسات وتحريض ليس له أي علاقة بمعنى الوطن ومعنى الانتماء والوفاء للأرض والماء والخبز والدم والتين والزيتون والتاريخ.. فجأة «ننسى أو نتناسى»، فندخل طوعاً أو كرهاً، بوعي أو من دونه، بحسن نية أو بسوئها في مصيدة العبث بأقدار الناس والوطن.
ولكن وبالرغم من كلّ ما حدث ويحدث فقد نجح الأردن في تجاوز الرمال المتحرِّكة وبقي الدم يحرس الدم، كما العود يحنُّ على قشره لأنه جزء منه.. وبقي الوعي الجمعي العميق يعيد العابثين إلى صوابهم.
أقول ذلك لأنّ مثل هذه الأحاديث أو الهمسات، التي بعضها عفوي وبعضها واعٍ، يجب صدّها بوعي ومنطق محكم، ذلك لأنها تدفع نحو إرباك الوعي فقط، وزعزعة الانتماء التاريخي الراسخ إلى روح المجتمع.
هنا أعلن: نعم هي الأردن وطني.. ولكن ليس كبديل عن فلسطين.. كيف يكون ذلك.. فهل لفلسطين بديل!؟
نعم هي فلسطين وطن الأردني.. ولكن ليست كبديل عن الأردن.. كيف يكون ذلك.. فهل للأردن بديل!؟
هو الأردن لي وفلسطين أيضاً لي.. كما هو الأردن لك وفلسطين أيضاً لك.. هذا واقع ثابت ومعطى عميق، ولا تعنيني هنا كثيراً قرارات مستر مارك سايكس ومسيو فرنسوا جورج بيكو التي أتحفانا بها في اتفاقيتهما الشهيرة «سايكس بيكو» عام 1916.
نعم قد نتفق وقد نختلف في السياسة كثيراً أو قليلاً.. لا بأس بذلك.. فالسياسة متغيرة ومتحركة كالراقصة.. لكنّ الأرض باقية والناس وذاكرة المكان يحرسان الوعي والأمنيات الكبرى في وطن أكبر من عمر وأقدم من فكرة.. لهذا محظور أن نبني العلاقة مع الناس ومع الوطن بناء على لحظة أو مرحلة سياسية عابرة.. ذلك لأنّ الوطن ليس من حقنا نحن فقط، بل الأهم أنه من حقّ الأجيال القادمة.. «نحن لا نرث الأرض من الأجداد، بل نستعيرها من الأبناء»، هكذا يقول مَثَلٌ هنديٌّ أحمر بمنتهى الحكمة والروعة.
بعض الأحداث المؤلمة التي عاشها الأردن أحياناً تستدعيها الذاكرة السياسية الضيقة لاستخدامها بصورة أضيق، ولكن حين نقف أمامها بهدوء ونقارنها بذاكرة التاريخ الإنساني المثقلة بأحداث مروعة، سنكتشف كم كانت في الأردن عابرة وعادية.
فكم هي المسافة شاسعة بين ما جرى هنا في الأردن ومآسي الحرب الأهلية في أميركا، أو الحرب الأهلية في روسيا بعد الثورة البلشفية، أو في إسبانيا في ثلاثينات القرن الماضي، أو في الصين، أو الحروب الدينية التى حصدت ملايين الأرواح في أوروبا.. أو في أفريقيا، ومع ذلك تجاوزت تلك الشعوب ذاتها رمّمت جراحها العميقة والهائلة فتماسكت ونهضت..
أقول ذلك لأنّ من لا يعي خطورة هذا الهمس وهذا السلوك وهذا الخطاب لا يدرك حقيقة الأخطار المحدقة، ففيما تبذل «إسرائيل» أقصى ما لديها لكي تتحول إلى بوتقة صهر اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي للجماعات اليهودية المهاجرة إليها من كلّ أنحاء العالم، جماعات لا يجمعها جامع لا من حيث السياقات ولا من حيث اللغة ولا من حيث التكوين، فإنها في اللحظة ذاتها تقوم بتعزيز ثقافة التقسيم والتمزيق في مجتمعنا الفلسطيني أو في الأردن مثلاً.. والغريب أنها تجد دائماً بعض الآذان الصاغية في أوساطنا.
وقد لفت انتباهي ما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تعليقه قبل أيام على الصدامات العنصرية التي جرت في الولايات المتحدة حيث قال ما معناه: نحن هنا أميركيون أولاً بغضّ النظر عن اللون أو الدين أو الأصل..
نعم هو ترامب نفسه الذي يسعى هو وحلفاؤه، بكامل طاقاتهم، إلى تقسيم سورية والعراق إلى أكراد وسنة وشيعة ومسيحيين وعلويين ودروز.. هو نفسه الذي يقول في أميركا «نحن أميركيون أولاً».. يقول لنا: أما أنتم أيها العرب فإنّ الطائفة أو الدين أو العرق أو العشيرة أو الأصل الإثني هو أولاً.. فلا تليق بكم الوحدة.. لا يليق بكم سوى أن تأكلوا بعضكم بعضاً كالضباع المفترسة.
نعم هي ذاتها أنظمة الحكم هناك في أوروبا التي تسعى منذ أكثر من 60 عاماً إلى توحيد أوروبا ذات الأصول واللغات المختلفة والتاريخ المختلف، فيما تصدّر إلينا وصفات التقسيم والتجزئة كما صدّرت إلينا منذ 100 عام اتفاقية وثقافة سايكس بيكو، واليوم تسعى هي وغيرها إلى تقسيم ذلك المُقسَّم أكثر فأكثر.
بعد هذا التنويه السياسي أعود إلى الأردن.
هذه المقالة ليست، بطبيعة الحال، في معرض تقديم قراءة سوسيولوجية سياسية ثقافية اقتصادية تاريخية ونفسية للمراحل والتحولات الاجتماعية التي مرّ بها الأردن والمجتمع الأردني عبر التاريخ، وما رافق ذلك من ديناميات اندماج اجتماعي في سياق الزمان والمكان كصيرورة اجتماعية موضوعية.
هذا التقديم السياسي أو الفكري ربما، قد يبدو بارداً بعض الشيء، لهذا قلت لأعيد صياغته بطريقة أخرى وبلغة مختلفة، لقد كتبتُ التقديم بلغة السياسة كي لا يبدو ما سيأتي لاحقاً مجرد عواطف عابرة، بل يستند إلى فكرة وركائز راسخة حين ندركها سيصبح لنبض القلب ترجمة سياسية وثقافية عالية..
إذن.. هي أفكار وجدانية بطعم السياسة، أو على الأقلّ أفكار سياسية بطعم الوجدان…
هنا لا أريد أن أعيد التذكير برفوف الشهدء الأردنيين الذين سقطوا على دروب فلسطين.. فذلك من بديهيات الوعي والواجب والمصير.. ومن باب الاحترام لهم لا أريد أن أجعلهم أداة في هذا النقاش.. سأتجاوز ذلك نحو أشياء «أبسط»… لعلها تساعد في وعي الفكرة بصورة أكثر تحديداً وإقناعاً من الشعارات والخطاب السياسي العام.. الذي قد يبدو وكأنه يقول كلّ شيء ولكنه لا يقول شيئاً بالتحديد.
حين نقف أمام الناس ناسنا هنا في الأردن.. حين ننظر في الوجوه وفي التكوين وفي الدم، حين نسمع اللغة والأغنيات، حين نتأمل الأفراح والأحزان، حين نتأمل أغنيات الأمهات لأطفالهن في المهد، حين ننظر إلى ثقافة الحصاد وأغاني الزيتون على منحدرات التلال، حين نستمع إلى حكايا الأجداد عن الخيل والليل والقهوة.. حين ندرس تشكيلات الأرض والتربة، حين نتأمل الأسماء، حين نقرأ التطريز على أثواب الأمهات والوشوم على جباههن وأيديهن، حين نمدّ اليد إلى الطعام.. حين نشتمُّ عند الغضب، ذات البيوت وذات المعمار وذات النوافذ والتحايا.. حينها وبعد ذلك ليقل لي أحدكم أي فرق سيجد بين من يسمى «شرق أردني» ومن يسمى «أردني من أصل فلسطيني»، أو بصورة أكثر تحديًّا بهدف التعميم: أي فرق سيجد فعلاً بين «الأردني» بـ«الفلسطيني»..!؟ ليقل لي أحدكم، من هنا أو هناك لا فرق، أي فرق سيجد أكثر من ذاك الفرق الذي بيني وبين أخي، أو بين أختي وأختي!؟.
حين نستمع إلى أحلام الناس وآلامهم، إلى طموحاتهم الأشمل، هل سنجد هناك يا ترى من لا يعشق فلسطين، وهل سنجد هنا من لا يعشق الأردن!؟.. هذا السؤال موجه إلى الوعي الجمعي العميق وليس لاستثناء هنا أو هناك.
كم هي المسافة شاسعة بين ضفتي هذا النهر الصغير الأليف الرقيق الهادئ.. وكم هي المسافة ضيقة لا تتجاوز تحية صباح بين فلاح هنا وفلاح هناك.. «يسعد صباحك.. يعطيك العافية.. ليكن محصولك وافراً وبيتك عامراً.. وقهوتك مشروبة».
حين تختفي الحدود وتتلاشى أوهام السياسة وسطوة الجغرافيا.. حين نلتقي هكذا كأي صديقين عفويين يلتقيان على رصيف الشارع وهما يحملان بعض الخبز وبعض الخضار لأطفالهما.. حين تتلاشى الحدود وأوهام السياسة وقيود الأديان والطوائف.. حين نلتقي كأي صديقين أمام البيوت البسيطة والقلوب العالية، أمام حديقة منزل تتهدّل منه أغصان الياسمين.. حين نلتقي كأي صديقين عاديين تماماً بلا قيود ونحن نتبادل الثرثرة على ضفتي نهرنا الواحد الأزلي.. حين تختفي الحدود وأوهام السياسة والجغرافيا ومحرمات الطوائف.. حين نلتقي ونتحدث بذات اللغة .. حين نلتقي ولا يبقى سوى ذات الشجن وذات الهموم وذات الأمنيات.. حين نلتقي لنشتمّ معاً أزمة السير ومشكلة النظافة والفساد والإفساد.. حين نلتقي لنتبادل الهموم عن أقساط المدارس والجامعات، حين نلتقي هكذا على رصيف الشارع مثقلين بهمّ أسعار الدواء والخضار والمواصلات.. حين نلتقي ونتبادل دمعة ونحن نتذكر فلسطين جرحنا العربي النازف.. حينها لا أعود أميّز هل أنا فلسطيني أم أردني.. حينها قد يلتبس علي الشارع والمكان.. نتبادل التحية ونمضي.. حينها قد يحدث أن أنسى أن أعود إلى فلسطين فأواصل سيري مثقلاً بالتعب النبيل إلى بيتي في عمان.. وقد يحدث أن تنسى أنت أيضاً وتواصل سيرك إلى بيتك في بيت لحم…
حينها ستعرف كم أنت أنا وكم أنا أنت. وحينها سيخجل كلّ منا مع كلّ هذا التاريخ والألم والأمنيات والفرح الواحد من الحديث بمنطق من أين أنت، ومن أين جئت، أو عُد من حيث أتيت…
إذن.. لنخلع الخوذة ونلقي بها بعيداً كي يصبح مجال الرؤية أوسع وأبعد.
في النهاية:
سلام على الأردن وعلى أطياف أهله من الجنوب إلى أقصى الشمال،
سلام على خيمة بدوية تنهض عند حدّ الصحراء تعلِّم معنى الكرامة والتعب النبيل،
سلام على الناس في مدن تتعربش التلال يقدمون القهوة كما الابتسامة،
سلام على قرى حالمة مُشرّعة على مواسم الخير والمطر،
سلام على فلاح يزرع القمح والرمان في الأغوار،
سلام على الجنود الأوفياء يقتسمون اللقمة وهم يحرسون الأرض ويحرس كلّ منهم ظهر زميله من دون أن يسأله عن أصله وفصله ودينه.. وإن حدث فلا يكون الهدف أكثر من ضحكة صافية.
سلام على شعب الفكرة..
سلام على شعب الموقف والانتماء الوفي.. سلام على الهوية والدم واللغة..
سلام على ذات الأمل وذات الأمنيات..
سلام على منديل أمي هنا ومنديل أمي هناك.. على كوفية أبي هنا وكوفية أبي هناك..
سلام على نهر يسقي النخيل هنا ويسقي النخيل هناك، على نهر نشرب منه هنا وتشربون منه هناك..
سلام على نهر يغتسل فيه ذات القمر..
سلام على فلاح أردني عينه لا تفارق قمر أريحا ووجه القدس.. سلام على فلاح فلسطيني عينه لا تفارق قمر الكرك ووجه عمان.
سلام عليّ هنا في فلسطين التي أحب.. وسلام عليكم هناك في الأردن الذي أحب..
سلام علينا حين لا تكون هناك حدود أو جنود أو بنادق.. وسلام علينا أيضاً حتى حين تكون هناك حدود وجنود وبنادق..
سلام على عصفور يجمع القمح من هنا ليطعم صغاره على شجرة سرو على الضفة الأخرى..
سلام على يمامة تقطع المسافات من الشرق لتغفو في نافذة على أسوار القدس..
وختاماً: سلام علينا حين تكون هنا هناك.. وحين تكون هناك هنا.