رواية «عائد إلى حيفا»: ضربة كنفاني الاستباقية… تفكيك ثقافة التطبيع فكراً وممارسة! 2

نصّار إبراهيم

حينها، قام «سعيد» عن مقعده وأخذ يدور في أنحاء الغرفة ثم وقف امام الطاولة المنقوشة بالصدف وسط الغرفة وأخذ، مرة أخرى، يعد ريشات الطاووس في المزهرية الخشبية الجاثمة هناك، الا انه لم يقل شيئاً. وظل صامتاً كأنه لم يسمع حرفاً. وكانت «ميريام» تنظر اليه متحفزة، وأخيراً التفت إلى «صفية» وشرح لها ما قالته «ميريام»، فقامت من مكانها ووقفت إلى جانبه، ثم قالت بصوت مرتجف: «ذلك خيار عادل… وأنا واثقة ان خلدون سيختار والديه الحقيقيين. لا يمكن ان يتنكر لنداء الدم واللحم». وفجأة أخذ «سعيد» يضحك بكل قوته، وكانت ضحكته تعبق بمرارة عميقة تشبه الخيبة: «أيّ خلدون يا صفية؟ أي خلدون؟ أيّ لحم ودم تتحدثين عنهما؟ وأنت تقولين أنه خيار عادل! لقد علّموه عشرين سنه كيف يكون. يوماً يوماً، ساعة ساعة، مع الاكل والشرب والفراش. ثم تقولين: خيار عادل! إنّ خلدون، أو دوف، أو الشيطان إن شئت، لا يعرفنا! أتريدين رأيي؟ لنخرج من هنا ولنعد إلى الماضي. انتهى الامر. سرقوه».

نعم لقد التقط كنفاني وبمهارة فكرة «ميريام» عن «الطبيعة التي ستحسم»، حينها قام وبطريقة مدهشة وبمنتهى الوضوح بتفكيك هذه المعادلة وهذا الخطاب الذي يبدو للوهلة الأولى عادلاً وعقلانياً للإنسان العادي أي ذلك الجزء من الناس الذين تمثلهم «صفية» في الرواية، أي الذين يقاربون النقاش بحسن نيّة تصل إلى السذاجة، وهنا نلاحظ أنّ كنفاني لا يتهم هذا النوع من الناس، ولا يقوم بتخوينهم، بل يقوم بشرح القضية لهم لإضاءة وعيهم.

بمعنى أن كنفاني لم يكن ينتظر لا تبريرات «ميريام» ولا أيّ نتيجة أو جدوى أو رهان على النقاش الذي سيدور مع «دوف» خلدون لاحقاً… ذلك لأن «سعيد» يعرف ويدرك حقيقة ما جرى، وبالتالي فهو يعرف النتيجة مسبقاً، ولهذا فهو من البداية لم يكن يتوقع شيئاً آخر أبداً. فقد كان ذهاب «سعيد» في الرحلة أو لنقل صياغة كنفاني للرواية بهذا الشكل كان يجري وفق معادلة واعية لم تغادر منطقها الداخلي المحكم… وهي أن كل هذه الرحلة لم يكن لها ضرورة. لهذا كان «سعيد» يستمع صامتاً وكأنه لم يسمع حرفاً… ثم يأتي انفجاره بالضحك بكل قوته الممزوجة بالمرارة العميقة والخيبة… ثم تساؤله بسخرية «أي خلدون يا صفية؟ أتريدين رأيي؟ لنخرج من هنا ولنعد إلى الماضي. انتهى الأمر. سرقوه».

الفرضية التي اشتغل عليها كنفاني وقادته في هذه الرواية وأراد تأكيدها وحسمها بصورة مقنعة هي أن مجرد الاستماع والتفكير ضمن شروط القوة السائدة هو بحد ذاته استسلام واعتراف بالهزيمة.. ليس هذا فحسب بل وهو مقدمة لتشريع الوقائع التي فرضها الاحتلال والتخلي عن خيار المقاومة…

لهذا فإن سعيد يعلن حتى قبل ان يلتقي بـ«ابنه خلدون دوف ».. أنه انتهى.. لقد سرقوه، والسؤال هنا هو: ما دام الأمر كذلك فلماذا كل هذه النقاشات والحوارات والانفعالات؟

الفكرة بسيطة وهي أن كنفاني أراد أن يصفي مسبقاً منطلقات وأسس الفكر والوعي المشوه، وأن يخلخل السياسات الواهمة التي تقوم على فرضية بائسة حول إمكانية استعادة الحقوق الوطنية من خلال الحوار العقلاني والإنساني والعاطفي، أو من خلال التطبيع مع احتلال استعماري استيطاني كولونيالي يعتمد أيديولوجيا صهيونية متطرّفة وعنصرية قام على أساسها وبقوة الحديد والنار بارتكاب المجازر الوحشية والتطهير العرقي المنظم بحق ملايين الفلسطينيين وانتهت العملية باستيلائه على أرض فلسطين.

بناء على هذه الحقائق، أي ما حققه المشروع الصهيوني من انتصارات في الميدان، فإنه بالتأكيد سيرفض الاعتراف بأي حق من حقوق الشعب الفلسطيني. وبالتأكيد سيرفض التنازل عن أي مكسب او امتياز استحقه بالحرب. إنه لن يعطي ولن يتنازل إلا بما يعود عليه بمكاسب وفوائد مضاعفة، سياسية، اقتصادية، أمنية وغيرها. فقط في هذه الحالة «سيتنازل». وفي هذه الحالة لا يعود لتنازل كهذا قيمة أو معنى.

فعلاً، لماذا على المنتصر أن يتنازل للمهزوم عن بعض ما كسب في الحرب؟ ما الذي يجبره على ذلك؟

8

وهكذا يواصل كنفاني بدأب وبراعة كشف الجذور السياسية والنفسية للتطبيع، يفكّكها تماماً ويحوّلها إلى كومة تافهة على مسرح الصراع الدامي الممتد على مساحة أكثر من قرن.

في سياق هذه العملية الحاسمة، فإن كل تفاصيل النقاش اللاحق مع «دوف/ خلدون» كانت فقط من أجل التأكيد على ما هو واضح لا أكثر. ذلك لأنه لم يكن هناك ومنذ البداية أي رهان على هذا الحوار أبداً، ومن كان ينتظر غير ذلك فإنه لم يدرك كلّ الهدف العميق من وراء رواية «عائد إلى حيفا».

ولهذا حين استدار «دوف / خلدون» وسأل «سعيد»: «ماذا تريد يا سيدي؟». أجابه: «لاشيء… لا شيء… إنه مجرّد فضول، كما تعلم».

ثم سأله «سعيد» بهدوئه المفاجئ: «أنت في الجيش؟ من تحارب؟ لماذا؟».

وانتفض الشاب واقفاً فجأة: ليس من حقك أن تسأل هذه الأسئلة. أنت على الجانب الآخر».

ـ «أنا؟ أنا على الجانب الآخر؟».

هنا تفترق المعادلات والمقاربات تماماً. جانب هنا وجانب هناك. والمقصود بـ«هنا وهناك» ليس مجرد وجهات نظر، إنما المقصود جبهات صراع ومواجهة يفصل بينها حقل شاسع من الدماء. جيوش وموازين قوى. لا طرفان يختلفان على صفقة أغنام أو «سحّارة» بندورة، وبالتالي فإن حسم المواجهة بين هاتين الجبهتين المشتبكتين حتى الموت ليست مسألة مفاوضات ونقاش من حيث المبدأ.

لهذا لم يجد «سعيد» أمامه سوى أن يضحك على اقتراح «دوف / خلدون» حين قال: «دعونا نتحدث كأناس متحضّرين».

وأخذ «سعيد» يضحك مرّة أخرى، ثم قال: «أنت تريد أن تفاوض… أليس كذلك؟ كنت تقول إنك، أو إنني، في الجهة الأخرى.. ماذا حدث؟ هل تريد أن نفاوض أم ماذا؟».

هذا التساؤل من «سعيد» يعبّر عن السخرية المرّة أكثر مما يقصد فكرة التفاوض فعلاً… يتوضح ذلك في الحوار التالي:

يقول «دوف»: «أنا لم أعرف إنّ ميريام وإيفرات ليسا والدي إلا قبل ثلاث أو أربع سنوات… وحين قالا لي ـ بعد ذلك ـ إن والديّ الأصليين هما عربيان، لم يتغيّر أي شيء. لا، لم يتغير. ذلك أمر مؤكد. إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية».

ـ «من قال ذلك؟».

ـ « قال ماذا؟».

ـ «من الذي قال إن الإنسان هو قضية؟».

ـ «لا أعرف، لا أذكر، لماذا تسأل؟».

ـ لمجرد الفضول، الصحيح لمجرّد أن ذلك بالضبط ما كان يدور في بالي هذه اللحظة.

ـ «إن الإنسان هو قضية؟».

ـ «بالضبط».

ـ «إذن، لماذا جئت تبحث عنّي؟».

ـ «لست أدري. ربما لأنني لم أكن أعرف ذلك، أو كي أتأكد منه أكثر…».

هنا يدفع كنفاني بفكرته الناظمة حول ثقافة التطبيع والمساومات والنقاشات الساذجة بقوة إلى الأمام. لنلاحظ كيف وبماذا أجاب «سعيد» حين توجه إليه «دوف» بسؤال مباشر: «إذن لماذا جئت تبحث عني؟». أجابه «سعيد»: «لست أدري، ربما لأنني لم أكن أعرف ذلك… أو كي أتأكد منه أكثر». جملة «لست أدري. ربما لأنني لم أكن أعرف ذلك» تعود إلى أولئك الذين فعلاً لا يملكون موقفاً أو وعياً كـ«صفية»، بينما «سعيد» ومنذ البداية كان واضحاً، ولهذا فقد استخدم تعبير «كي أتأكد أكثر»، بمعنى أن النتيجة مؤكدة. ولو أراد تأكيد الشق الأول لما أضاف تعبير «أكثر»، وبالتالي فإن الهدف هنا تأكيد فكرة قائمة ولكن أكثر فأكثر.

عبر هذا الحوار يغادر كنفاني النقاش النظري والمواقف الخطابية العامة. وهذا غير ممكن إلا من خلال استحضار موقف عملي حقيقي، وإدارة حوار «واقعي»، بهدف اختبار الفرضية في الواقع مباشرة. أي أنه قام بما يشبه المناورة العسكرية التي يجري تصميمها كمعركة حقيقية. وبهذا قام بتفكيك الفكرة من خلال فرضية الحوار مع «دوف/ خلدون».

واختيار «دوف / خلدون» كطرف لنقاش الفكرة فيه قوة مدهشة كما جرى التنويه سابقاً. ذلك أن كنفاني أراد التأكيد على مفهوم العدوّ بالمعنى العميق، السياسي والايديولوجي والسلوكي، أي مقاربته بعيداً عن العواطف أو البعد الإثني أو الديني بحيث يبقى واضحاً ومكشوفاً كمنظومة سياسية وايديولوجية وأمنية واقتصادية بغضّ النظر عن جنسية هذا العدو ولغته. بمعنى أن «دوف»، ورغم كونه الإبن البيولوجي لـ«سعيد» و«صفية» الفلسطينيين، إلا أنه وبفعل ديناميات الصراع وحقائقه أصبح جزءاً عضوياً من الجبهة النقيضة بكل سماتها ومكوّناتها.

توظيف غسان لشخصية «دوف /خلدون» من أجل تفكيك فكرة التطبيع يؤشر إلى فكرة عميقة وهي أن المسألة هنا أي وفق محدّدات الصراع الحاكمة، ليس لها علاقة بالعواطف والانفعالات أو بموقف عدائي من اليهود لأنهم يهود، فالتطبيع مع من يحتل الوطن مرفوض حتى لو لم يكن يهودياً، بمعنى أن التناقض هو مع المشروع الصهيوني كاستراتيجية عنصرية استعمارية. من هنا نفهم قيمة النقاش الذي دار حول مفهوم أنّ «الإنسان قضية» ومفهوم «الوطن».

ـ «الإنسان في نهاية المطاف قضية، هكذا قلت، وهذا هو الصحيح، ولكن أيّ قضية؟ هذا هو السؤال! فكّر جيدا. خالد هو أيضاً قضية، ليس لأنه ابني، ففي الواقع… دع تلك التفاصيل، على أيّ حال، جانباً… إننا حين نقف مع الإنسان فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر… هل تستطيع أن تفهم ذلك؟ حسناً، دعنا نتصوّر أنك استقبلتنا ـ كما حلمنا وهماً عشرين سنة ـ بالعناق والقبل والدموع. أكان ذلك قد غيّر شيئاً؟ إذا قبلتنا أنت، فهل نقبلك نحن؟ ليكن اسمك خلدون أو دوف أو اسماعيل أو أيّ شيء آخر… فما الذي يتغيّر؟ ومع ذلك فأنا لا أشعر بالاحتقار إزاءك، والذنب ليس ذنبك وحدك، ربما سيبدأ الذنب من هذه اللحظه ليصبح مصيرك، ولكن قبل ذلك ماذا؟ أليس الإنسان هو ما يحقن فيه ساعة وراء ساعة ويوماً وراء يوم وسنة وراء سنة؟ إذا كنت أنا نادماً على شيء فهو أنني اعتقدت عكس ذلك طوال عشرين سنة!».

في هذه الفقرة، يشير كنفاني إلى مسألة هامة، وهي أنه حتى لو جرت الأحداث بصورة مغايرة، أي بمعنى إنساني صرف، أي لو أن «دوف»، مثلاً، رقّ قلبه فاستقبل والديه الحقيقيين بالعناق، فهل كان مثل هذا العناق الشخصي والعاطفي سيغيّر من علاقات القوة وواقع الاحتلال شيئاً؟ فبعد لحظات سينتهي العناق وتتراجع الدموع، وفي النهاية سيعود كلّ طرف إلى الجبهة التي ينتمي إليها. بهذا المعنى نفهم المعنى المضمر من قول «سعيد» لـ«دوف»: «ومع ذلك، فأنا لا أشعر بالاحتقار إزاءك، والذنب ليس ذنبك وحدك»… المسألة إذن لا علاقة لها بالاحتقار على المستويين الإنساني والوجداني ولكن بحقائق الواقع، ومع ذلك تبقى جملة «الذنب ليس ذنبك وحدك»! بحاجة إلى توضيح، فما الذي كان يقصده كنفاني بهذه الجملة الغريبة نوعاً ما يا ترى؟

«الذنب ليس ذنبك وحدك» تعني وفق السياقات، أنك تتحمّل جزءاً من الذنب، ذلك يرتبط بوعيك وما تدّعيه من عقلانية إنسانية وغير ذلك، وهذه مسألة نسبية، ولكن هناك طرفاً آخر يتحمّل جزءاً أساسياً من الذنب ألا وهو نحن… نحن الذين سمحنا بهزيمتنا وسكوتنا عن نتائجها بل والتعامل معها كأمر واقع بأن يحدث كل ذلك. هذا هو المعنى الكثيف للسؤال والعميق الذي طرحه كنفاني على «صفية» وهم في طريق العودة من حيفا: «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله». نعم… ولكن لكي لا يحدث ذلك كله، كان علينا أن نقاتل ونقاوم… ولكي لا يستمر ما حدث فإن علينا أن نقاتل ونقاوم.

9

يلاحق كنفاني في الرواية بنية ثقافة التطبيع وأوهامها ويكشفها بلا رحمة، يهزّ منطلقاتها من جذورها بكل براعة وتماسك. لم يسقط في الخطاب الأجوف، بل بقي ممسكاً بناصية الفكرة وشدّها لكي تقف عارية تماماً. لهذا، حتى ولو ـ كفرضية ـ قام «دوف» باستقبال والديه بالعناق والدموع، فإن ذلك لن يغيّر من حقيقة الواقع والمعادلات التي تحكمه شيئاً. ذلك لأن تغيير هذا الواقع هو موضوع صراع شامل وليس مسألة حوار على فنجان قهوة.

في هذا السياق نلاحظ أن كنفاني ومع أنه قد حسم ومن البداية موقفه من فكرة الحوار وجدواه، إلا أنه في اللحظة ذاتها لم يدر ظهره لخطاب العدو .. فهو لم يكتف بالقول بأن الحوار في ظل هذه المعادلات لا جدوى منه.. بل قام بشن هجوم معاكس على بنية الخطاب الصهيوني، ولكن من على قاعدة المواجهة وليس من على قاعدة وهم تغييره أو لإقناعه بالتنازل من خلال الحوار:

ـ «زوجتي تسأل إن كان جبننا يعطيك الحق في أن تكون هكذا، وهي، كما ترى، تعترف ببراءة بأننا كنا جبناء، ومن هنا فأنت على حق، ولكن ذلك لا يبرر لك شيئاً، إن خطأ زائداً خطأ لا يساويان صحّاً، ولو كان الأمر كذلك لكان ما حدث لإيفرات ولميريام في أوشفيتز صواباً، ولكن متى تكفون عن اعتبار ضعف الآخرين وأخطائهم مجيرة لحساب ميزاتكم؟ لقد اهترأت هذه الأقوال العتيقة، هذه المعادلات الحسابية المترعة بالأخاديع. مرّة تقولون إن أخطاءنا تبرر أخطاءكم، ومرة تقولون إنّ الظلم لا يصحّح بظلم آخر. تستخدمون المنطق الأول لتبرير وجودكم هنا، وتستخدمون المنطق الثاني لتتجنبوا العقاب الذي تستحقونه، ويخيل إلي أنكم تتمتعون إلى أقصى حد بهذه اللعبه الطريفة، وها أنت تحاول مرة جديدة أن تجعل من ضعفنا حصان الطراد الذي تعتلي صهوته… لا، أنا لا أتحدث إليك مفترضاً إنك عربي، والآن أنا أكثر من يعرف أن الإنسان هو قضية، وليس لحماً ودماً يتوارثه جيل وراء جيل مثلما يتبادل البائع والزبون معلبات اللحم المقدد، إنما أتحدث إليك مفترضاً أنك في نهاية الأمر إنسان. يهودي. أو فلتكن ما تشاء. ولكن عليك أن تدرك الأشياء كما ينبغي… وأنا أعرف أنك ذات يوم ستدرك هذه الأشياء، وتدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها، كائناً من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرّر له أخطاءه وجرائمه».

لنلاحظ أن الخطاب الموجه إلى «دوف» هنا لا علاقة له بحوار بين والد وابنه، كما لا علاقة له بالأبعاد العاطفية والبيولوجية، فـ«دوف» هنا هو معادل للصهيونية والفكر الصهيوني. ما استدعى هجوماً مباشراً على وعيه وخطابه.

من هنا جاء التلميح السريع والذكي لغسان حول ما تعرض له اليهود في ألمانيا النازية أي «الهولوكوست»، فرغم كلّ ما تعرض له الشعب الفلسطيني على يد الحركة الصهيونية، إلا أن كنفاني بالمعنيين الفكري والإنساني لم يستخدم المأساة الفلسطينية لكي يعبّر عن سعادته بـ«الهولوكوست»، لقد ارتقى كنفاني هنا إلى مستويات أخلاقية وإنسانية هائلة هي جوهر وركيزة الأساس الأخلاقي لنضالات الشعب الفلسطيني الذي لا يقبل أي قهر أو قتل للإنسان على أساس عرقي أو ديني أو جنسي. أي على عكس سلوك الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال التي تقوم بتوظيف «الهولوكوست» لتبرير ممارساتها الوحشية ضدّ الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وكأن ما تعرض له اليهود في ألمانيا النازية يعطيهم الغطاءين السياسي والأخلاقي لممارسة وحشيتهم واحتلالهم ضدّ الشعوب الأخرى.

10

بعد هذه المحاكمة الصارمة والدقيقة فكرياً وسياسياً وإنسانياً… يعود كنفاني إلى التذكير بالبديهيات:

«ثم نظر مباشرة في عينَيّ «دوف»: «وأنت، أتعتقد أننا سنظلّ نخطئ؟ وإن كففنا ذات يوم عن الخطأ، فما الذي يتبقى لديك؟».

هنا ينتهي النقاش. هنا تكتمل الفكرة. وتسقط أيّ فرضيات أو أوهام ساذجة في الممارسة السياسية والثقافية. وهكذا، شعر، ثمة، أن عليهما أن ينهضا وينصرفا، فقد انتهى الأمر كله، ولم يعد هناك ما يقال بعد… وأحس تللك اللحظة بشوق غامض لـ«خالد»، وودّ لو يستطيع أن يطير اليه ويحتويه ويقبّله ويبكي على كتفه، مستبدلاً أدوار الأب والابن على صورة فريدة لا يستطيع تفسيرها. «هذا هو الوطن»، قالها لنفسه وهو يبتسم، ثم التفت نحو زوجته: «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كلّه… إن دوف هو عارنا، ولكن خالد هو شرفنا الباقي. ألم أقل لك منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي. وإن ذلك يحتاج إلى حرب؟ هيا بنا!».

الفكرة هنا أنه تستحيل إدارة حوار واستعادة حقوق من خلال الرهان على حوار أو نقاش مع طرف يذكرنا دائماً بهزائمنا وعارنا.

ولهذا بالضبط يقوم كنفاني بدفع الفكرة النقيضة أو البديل عن كل هذه المهزلة من خلال فكرة معانقة «سعيد» ابنَه الفدائيّ «خالد»، الذي أصبح معادلاً للوطن، ذلك لأنه كرمز للمقاومة هو البديل لفكر وسياسة الهبوط والرهانات العقيمة، إنه النقيض لإمكانية استعادة الوطن والحق من دون مقاومة ومن دون تغيير موازين القوى… إنه الطريق لإعادة تصحيح التاريخ. لهذا فإن «خالد» هو الوطن. ذلك لأن الوطن وفق محدّدات الصراع الصارمة لن يعود من دون مقاومة.

هذا هو المعنى العميق لتلك الجملة الحاسمة التي قالها «سعيد» حين وصل إلى الباب متوجّهاً بها إلى «دوف»: «تستطيعان البقاء موقّتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب».

بعد كلّ هذا العصف،. ظلّ «سعيد» صامتاً طوال الطريق، ولم يتلفظ بأيّما شيء إلا حين وصل مشارف رام الله، عندئذٍ فقط نظر إلى زوجته وقال: «أرجو أن يكون خالد قد ذهب أثناء غيابنا!».

المقاومة… تلك هي الفكرة والبديل الحاسم والعالي عن كل هذه المهزلة… المقاومة كخيار سياسي وثقافي استراتيجي.

لهذا، ولكي تترسخ هذه الفكرة كثابت وركيزة، فقد قام كنفاني بتعزيزها من خلال التعبير عن الاحترام الهائل الذي عبّرت عنه العائلة التي سكنت في بيت فارس اللبدة في يافا للشهيد بدر اللبدة، فاحتضنت صورته عشرين سنة. ذلك لأنه يمثل النقيض أو الخيار الآخر الممكن مقابل من غادر الوطن، بدر اللبدة الذي اختار المقاومة حتى الاستشهاد. ولهذا فإنه أصبح كرمز من حقّ فلسطين، ومن حقّ من سيواصل أهدافه وتضحياته. بمعنى أن القيمة العميقة لتضحية الشهيد بدر اللبدة تكمن في كونه يشكل الامتداد المضيء لخالد الذي التحق بالفدائيين ليحرس الفكرة ذاتها والقضية ذاتها. لهذا حين قام فارس اللبدة أخو الشهيد بدر اللبدة بإنزال الصورة عن الجدار ليأخذها، بدا المكان الذي خلّفته الصورة وراءها مستطيلاً باهتاً من البياض الذي لا معنى له، والذي يشبه فراغاًَ مقلقاً.

هذه «الحركة العميقة» تحمل دلالات مضمرة مدهشة، إنها تعني أن فلسطين الوطن تحتاج إلى من يحرس ذاكرتها ويحرس فكرة المقاومة من أجل استردادها، وليس تحويلها إلى مجرد ذكرى مؤلمة، وصورة تعلّق على الجدار للبكاء.

لهذا السبب حين «حمل فارس الصورة معه إلى السيارة، وعاد إلى رام الله وكان طوال الطريق ينظر اليها متكئة إلى جانبه على المقعد، ويطل منها بدر وهو يبتسم تلك الابتسامة الشابة المشرقة، وقد ظل يفعل ذلك حتى اجتاز القدس، وصار على الطريق المتجه نحو رام الله، وعندها فقط انتابه شعور مفاجئ بأنه لا يملك الحق في الاحتفاظ بتلك الصورة، ولم يستطع أن يفسر الأمر لنفسه، إلا أنه طلب من السائق العودة إلى يافا، ووصلها في الصباح». وأعاد الصورة إلى مكانها، لأنهم هم أهلها الشرعيون.

في هذا السياق العالي جاء أيضاً ردّ فعل ربّ الأسرة الفلسطينية التي بقيت صامدة في بيت فارس اللبدة في يافا طيلة عشرين سنة وهي تحتفظ بصورة الشهيد بدر اللبدة في صدر البيت، فقد شعر بعد أن أخذ فارس الصورة وغادر بذلك الفراغ المروّع، وقد عبّر عن مشاعره هذه قائلاً: «شعرت بفراغ مروّع حين نظرت إلى ذلك المستطيل الذي خلفته على الحائط. وقد بكت زوجتي، وأصيب طفلاي بذهول أدهشني. لقد ندمت لأنني سمحت لك باسترداد الصورة، ففي نهاية المطاف هذا الرجل لنا نحن. عشنا معه وعاش معنا وصار جزءاً منا. وفي الليل قلت لزوجتي أنه كان يتعين عليكم، إن أردتم استرداده، أن تستردوا البيت، ويافا، ونحن… الصورة لا تحلّ مشكلتكم، ولكنها بالنسبة إلينا جسركم إلينا وجسرنا إليكم».

نعم هذا الرجل لنا نحن… ذلك لأنه ذاكرة فلسطين، إنه الامتداد العميق والأصيل لخالد الذي التحق بالفدائيين. وهما معاً أي الشهيد والمقاوم الذي يواصل مهمته ومسؤوليته وواجبه الوطني ـ الأخلاقي يشكلان التكثيف العالي لخيار المقاومة بمعناه الشامل من أجل استرداد فلسطين… إنهما النقيض لعارنا الذي يجسده احتلال فلسطين واحتلال «خلدون/دوف».

نعم بالضبط، «إن دوف هو عارنا، ولكن خالد وبدر اللبدة هما شرفنا الباقي… ألم أقل لك منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي.. وإن ذلك يحتاج إلى حرب؟ هيا بنا!».

11

في النهاية… وبعد هذه القراءة لرواية «عائد إلى حيفا» بما فيها من اجتهاد ومقاربات، قد تخطئ وقد تصيب، فإنني أعيد صوغ خلاصة الفكرة ولكن بلغة سياسية.

في المسافة الممتدة ما بين صدور رواية «عائد إلى حيفا» عام 1969 وحتى اليوم، جرت في نهر الواقع الفلسطيني مياه كثيرة، حتى باتت ثقافة وممارسة التطبيع، الذي كان حالة هامشية ومدانة، ظاهرة مقيمة وشبه عادية تجتاح السياسات العربية وخاصة أوساط المثقفين والإعلاميين تحت تبريرات مختلفة. وكأني بغسان كان يتنبأ بهذا التهديد والتشويه للوعي. فكتب رواية «عائد إلى حيفا» لكي يفكك ركائز ومنطلقات هذا التهديد الثقافي والسياسي المحتمل بصورة مباشرة وملموسة، ويهزّ بنيته ويكشف خطورته على الوعي والممارسة، بما يحصّن الوعي والثقافة بصورة علمية عميقة وراسخة.

لقد باتت ثقافة التطبيع وممارسته في مختلف الحقول اليوم حقيقة واقعة، فلسطينياً وعربياً. فلم يعد التطبيع يقتصر على حالة فردية هنا وأخرى هناك. بل أصبح تياراً تحميه وتسنده سياسات وحكومات ومعها مثقفون وإعلاميون ومؤسّسات. فبات التطبيع مع الاحتلال ومؤسساته سياسياً وثقافياً واقتصادياً وأمنياً أمراً عادياً، يجري الترويج له كنوع من عقلانية ذكية. ما يجعل من تحليل وتفكيك أسس هذه الثقافة البائسة بصورة منهجية مسألة ملحّة وراهنة.

هنا من الضروري التمييز بين ممارسة التطبيع كعملية سياسية نفسية اقتصادية واعية، أي كتعبير عن خيار سياسي طبقي يعكس مصالح طبقات وسلطات سياسية ترى مصلحتها في التحالف والتعاون مع الاحتلال، وبين التطبيع الذي يعبّر عن حالة ارتباك وتشوش والتباس نتيجة غياب الوعي العميق لطبيعة الصراع أو ضعفه. الأول واضح، ومجابهته وصدّه يشترطان مشروعاً سياسياً ثقافياً اجتماعياً واقتصادياً نقيضاً، أعني مشروعاً ثقافياً وسياسياً مقاوماً بالمعنى الواسع والعميق للكلمة. لأن هذا النمط من التطبيع المنهجي والواعي يعبّر عن خيار سياسيّ واقتصادي يجد مصلحته في التموضع في الجبهة النقيضة.

النوع الثاني من التطبيع هو الذي يجري عادة بحُسن نيّة. أي من دون أن يعي من يقوم به بأنه يخطو في دائرة المحرّم. إنه يقوم بذلك وهو يعتقد أنه يساهم في دعم الشعب الفلسطيني والدفاع عن قضيته. من خلال مناقشة الطرف الآخر ليكتشف خطأه وبالتالي سيتنازل هكذا طوعاً ويعيد إلى الفلسطينيين حقوقهم ووطنهم. هنا قد تكون الدوافع نبيلة لكنها في العمق تعكس خللاً جوهرياً في الوعي يصل حدّ السذاجة. بمعنى أن الطريق معبّدة بالنوايا الحسنة ولكنها تقود في النهاية إلى الجحيم ذاته. وهنا لا يعود الفرق في النتيجة كبيراً بين مظهرَي التطبيع، حيث يتبادلان التأثر والتأثير.

من يعتقد أن اللقاء مع مؤسسات ووسائل إعلام وشخصيات سياسية حكومية وغير حكومية «إسرائيلية» صهيونية إنما يوفر مساحة لطرح وجهة النظر العربية إنما يقع هنا في مجموعة من الأخطاء الفادحة:

الأول: الاعتقاد المغلوط بأن المشكلة تكمن في سوء الفهم عند «الإسرائيلي». بمعنى الافتراض أن ليس عنده معلومات أو أنه لا يعي حقيقة الصراع، وبالتالي فإن مجرد مناقشته ومحاججته من منطلق عاطفي وإنسانوي أو حتى قانوني فإنه يمكن إقناعه بالتنازل عما كسبه بالحرب والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وإعادتها. هذا يعبّر عن ضحالة وتبسيط غير عاديين للصراع. فالصراع هنا ليس خاضعاً للأمزجة الشخصية والفردية. إنه مواجهة شاملة يعي كل من طرفيها حقيقته ومضامينه وأهدافه منذ البداية. وبالتالي فإن ما هو قائم من محدّدات ونواظم لهذا الصراع لا علاقة لها بسوء الفهم الذي يمكن إزالته وتجاوزه من خلال طاولة حوار ونقاش هادئة لكي تحل المشكلة كما يعتقد بعض السياسيين والمثقفين الفلسطينيين والعرب. وبمناسبة هذه الفكرة يمكن التذكير فقط بأن الحوار مستمر بين القيادة الفلسطينية والاحتلال منذ أكثر من 25 سنة. والنتائج أكثر من واضحة، إذ لم يغير هذا الحوار من الواقع شيئاً باستثناء استفحال ممارسات الاحتلال وقهره ومواصلة تكريس وترسيخ مشروعه الاستيطاني الاقتلاعي.

الثاني: أنه لمجرّد قبول الدخول في هذه العملية فإن المثقف العربي أو الفلسطيني الواهم يكون مسبقاً قد تنازل واعترف بأن للطرف المعتدي حقاً في ما يقوم به… ليس بالضرورة كله ولكنه اعتراف بأن له حقاً ما وما يقوم به المثقف الواهم هنا هو محاولة عقلنة هذه العلاقة.

الخطأ الثالث: هو الوهم السياسي والمعرفي والثقافي الذي يقوم على الاعتقاد بأن حل الصراع واستعادة الحقوق هو مسألة سجال وحوار وقدرة على الإقناع. فيما الحقيقة التاريخية والسياسية تقول إنّ استعادة الحقوق هي مسألة صراع شامل سياسي، كفاحي، ثقافي، اقتصادي، اجتماعي ونفسي يستهدف تغيير موازين القوى بالمقاومة. وأيّ ترويج لغير ذلك هو ضارّ بكلّ المقاييس ونتيجته تشويه الوعي والإرباك لمحددات الصراع.

الخطأ الرابع: يتجلّى في وهم الذهاب إلى التفاوض من أجل استحقاق الحقوق من دون مقاومة ومن دون امتلاك عناصر القوة ومن دون تغيير موازين القوى. بمعنى أنه يمكن الذهاب في اختبار إمكانية التفاوض ولكن من على قاعدة المقاومة وامتلاك عناصر القوة، وليس التفاوض من على قاعدة الإقرار بالهزيمة وعدم السعي إلى تغيير موازين القوى بالمقاومة. هذا هو الاختلال البنيوي الذي تعاني منه كل المفاوضات الفلسطينية والعربية مع الاحتلال «الإسرائيلي» وما ترتب عليها من اتفاقيات مختلة ومهينة، ذلك لأنها جرت من على قاعدة معادلة أن التفاوض يجري ما بين طرف منتصر تماماً وطرف مهزوم تماماً، وأن هذه المعادلة حاكمة إلى ما لا نهاية.

الخطأ الخامس: الاعتقاد بفكرة حيادية وسائل الإعلام سواء كانت «إسرائيلية» أو غربية. تلك الوسائل التي تجاهد لتثبت حياديتها كي تبرّر تمريراتها السياسية المحدّدة والمنضبطة لسياسات الدول. فقط نحن من نعتقد أنها حيادية لأننا نلتبس ونحن نقارنها بوسائل إعلامنا المتخلّفة.

الخطأ السادس: عدم إدراك خطورة هذه الممارسة على وعي الناس والأجيال القادمة. وهذا يعبّر عن استهانة وإهانة لشعب يقاتل منذ مئة سنة، ولا يزال يقدّم الشهداء والجرحى والأسرى. فماذا سيكون تأثير هذه الثقافة والممارسة على الوعي الجمعي حين يرى سياسييه ومثقفيه وهم يجلسون ويتبادلون الابتسام مع مؤسّسات الاحتلال وممثليه، بينما في اللحظة ذاتها، وغير بعيد عن طاولة الحوار، يسقط الفلسطيني شهيداً، أو يعتقل أو يُدمَّر بيته أو تُصادَر أرضه؟ أليس في ذلك استخفاف بالناس وتضحياتهم؟

أخيراً، إن عدم إدراك خطورة دعم ثقافة التطبيع وتشجيعها تحت ضغط اللحظة وموازين القوى القائمة باعتبارها حقيقة أزلية، بما يعنيه ذلك من استخفاف وعدم ثقة بالأجيال القادمة وقدرتها على المبادرة ومواصلة النضال لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني واستحقاقها بالمقاومة بالمعنى الشامل والاستراتيجي للكلمة، يعني في العمق قطع الطريق وإغلاق الأفق أمام أيّ إمكانية أو مبادرة مستقبلية لمواصلة المقاومة وهزم الاحتلال.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى