الراحل سليمان العيسى… شاعر الحلم والطفولة
لورا محمود
شاعر الوطن والطفولة، وهب حياته لقضايا وطنه، وعاش قناعاته التي أدخلته السجن لكنه لم يتخلّ عنها يوماً. ركز في شعره وقصائده على عالم الطفولة الذي يراه عالماً بسيطاً وبريئاً وعفوياً، ولم يعتمد في كتاباته على التسلية والترفيه بل خضعت قصصه وقصائده لمعايير مهنية وتربوية، ساهمت في تطوير الوعي العاطفي للأطفال وتنمية مداركهم والإحساس بالجمال عبر التأمل وطرح الأسئلة، من دون أن ينسى أطفال فلسطين الذين جعلوا من الحجر هوية انتماء.
يُعتبَر من أهم الشعراء السوريين، وقام بكتابة كافة النصوص الشعرية في كتب التعليم الابتدائي في سورية. هو الشاعر سليمان العيسى، محور الندوة التي أقيمت في دار الأسد للثقافة والفنون على «مسرح دراما». وأدار الندوة الدكتور اسماعيل مروة الذي تحدّث عن لقائه بسليمان العيسى وصداقته وعن أيامه الأخيره قائلاً:
بقيت معه حتى أواخر أيامه في مستشفى الأسد الجامعي، وقدّمت عنه دراسات وندوات عدّة، إذ ربّما أقدّم وردة لهذا الرجل الذي ـ بعد ثلاثين سنة ـ اكتشفت كم قدّم للطفولة، وأن شعر الطفولة لم يكن إلا لأحمد شوقي وسليمان العيسى فكان مدرسة لشعر الطفولة، وكان يقول أنا أفرح بأن يتعطّر اسمي بوزن القصيدة على لسان طفل.
وتابع مروة: لا أستطيع أن أكون حيادياً مع شاعر كسليمان العيسى الذي قبل أن يذهب إلى المستشفى بأسابيع ترك لي رسالة كتب لي فيها: «باسماعيل تزدهرالحروفُ… صديق قُدّ من صخر لكن تفجّر منه ينبوع شفيف». فقد اختصر حياتي بشطرين، فكيف لي أن أكون حيادياً أمام هذا الرجل الذي كان يقول لي دائماً: «ليقولوا إن القومية انتهت، أنا بالنسبة إليّ القومية باقية وحلمي لا يموت وإن مات على ألسنة بعض الناس وقلوبهم».
الطفل والطفولة
كلّنا ردّدنا أشعار العيسى وحفظناها وصار اسمه مرتبطاً بشعر الطفولة. فقصائده جزء من ذاكرتنا وهي الحاضرة على ألسنة كلّ الأطفال. وقد تحدث إلى «البناء» الدكتور دياب الراشد، الأستاذ في قسم اللغة العربية قائلاً: العيسى هو من الرجال والشعراء النادرين وتميّز بشعر الأطفال عن وعي، وإدراك منه بأهميته. فهو بدأ بالحلقة الأولى في تأسيس الطفل. وسليمان العيسى هو الشاعر الإنسان، فكل إنسان راقٍ يشعر بالطفل. حتى بعض الحيوانات لا تقترب من الطفل، فغريزة الأمومة عندها موجودة وتمنعها من إيذائه، فما بالك بالإنسان؟ طبيعة الإنسان تجعله يهتم بالطفل ويعتني به، لكن أحياناً تضيع البوصلة عند البعض فتجعلهم لا يهتمّون به بسبب الظروف الصعبة، وخصوصاً اليوم.
ولفت الراشد في الندوة إلى أنه لم يكن اتجاه الشاعر سليمان العيسى إلى أدب الأطفال وليد المصادفة أو من قبيل الترف الفكري، أو تنصّلاً من معالجة الواقع السياسي. بل كان إدراكاً من الشاعر بضرورة تهيئة الجيل للنهوض وهدم الجدران بين أقطار العالم العربي، ليعملوا على استعادة كل شبر سليب من ترابنا.
وتابع الراشد: إنّ الشاعر سليمان العيسى كان يقول: «أنا لا أكتب للصغار لأسلّيهم، ربما كانت أيّ لعبة أو كرة صغيرة أجدى وأنفع في هذا المجال، إنما أنقل إليهم تجربتي القومية، تجربتي الإنسانية والفنية، أنقل إليهم همومي وأحلامي». وكان يرى أنه يساهم في تربية الطفل كما يربّي الفلاح غرسه، ليزرعهم في تربة الأوطان كشجرة زيتون يغرسها الأجداد ويجني ثمارها الأحفاد. فهم المستقبل المرتقب والكتابة لهم تشبّث بالحلم الذي حمله الشاعر.
وأضاف الراشد أن الشاعر سليمان عندما كان يُسأل لماذا تكتب عن الأطفال كان يقول: «وهل هناك موضوع أجمل وأهمّ وأغنى من الكتابة للأطفال؟ وهل شبع أدباؤنا وشعراؤنا من الكتابة لهم حتى أسكت وأطوي هذه الرغبة بين الضلوع. أدبنا العربي محروم من شعر الأطفال الذين هم فرح الحياة ومجدها الحقيقي، فهم المستقبل والنبات الذي تبحث عنه أرضنا السورية».
الشعر القومي
سليمان العيسى الهادئ، الثائر عندما يتعلّق الأمر بالقومية، فعندما سأله أحدهم مرّة أتؤمن بالقومية، أجابه بقساوة: «هذا سؤال لا يُسأل ولا يُناقش. فأنت تؤمن بجلدك ولون عينيك لأنك لا تستطيع تغييرهما، القومية بالنسبة إليّ تعني نبضي، كياني، القومية وجودي على هذه الأرض».
وعن العيسى قال الشاعر الدكتور نزار بني مرجة: في الفترة التي أنهى فيها شاعرنا المرحلتين الابتدائية والإعدادية، كان الأتراك قد اقتطعوا لواء اسكندرون وهيمنوا عليه واضطهدوا أبناءه، فعانى شاعرنا مع كوكبة من زملائه وعلى رأسهم زكي الأرسوزي من قمع واضطهاد من قبل سلطات الاحتلال التركي ليجدوا أنفسهم مضطرّين للتوجّه إلى الداخل السوري.
وأضاف بني مرجة: أنجز شاعرنا عدداً من دواوينه الشعرية الهامة التي تلقّفتها الأجيال، فضلاً عن أن الكثير من قصائده أصبحت معتمدة في مناهج التعليم والتدريس في مراحل دراسية مختلفة في عدد من الأقطار العربية لتُعزَّز مكانته كشاعر قومي بامتياز. ومن تلك الدواوين «قصائد عربية»، «أمواج بلا شاطئ»، «أعاصير في السلاسل»، «بين الجدران»، فضلا عن المسرحيات الشعرية. ولعلّ تلك الدواوين والقصائد والمواقف جعلت شاعرنا أمثولة ونموذجاً.
وردّاً على سؤال طرحته «البناء» حول أهمية هذه الندوات التي تستذكر المفكّرين السورين قال بني مرجة: لا شك في أنّ إقامة مثل هذه الندوات في هذه المرحلة، تُعتبَر مؤشراً جيداً لأننا مستهدفون في الهوية والانتماء. لذا على المثقفين التواجد في خندق المواجهة ضدّ الفكر الإرهابي الذي يستهدف وجودنا. فهذه الندوات تشكل محطة هامة تستهدف الوصول إلى أجيال الشباب لتحميهم من الغزو الثقافي ولتذكّر بأعلام الثقافة الذين كان لهم الفضل في الدفاع عن القيم التي تربينا عليها وقام وطننا على مبادئها. وما نقدّمه كمثقفين يجب أن يكون بمستوى تضحيات شهداء هذا الوطن. وسليمان العيسى من أهم الشعراء السوريين المجبول على الروح القومية، وكل قصيدة كتبها كانت تحمل قضية وطنية. حتى قصائده التي توجّه بها إلى الأطفال كانت تتّسم بروح القومية العالية. فهو واحدة من القلاع التي حافظت وسيحافظ إرثها الأدبي والثقافي على وجود وطننا.
الأسرة والمرأة
أما الأنثى عند سليمان العيسى فهي نصف كتاب الحياة. فهو الذي أخرجها من الصورة النمطية المتوارثة، وكتب عنها وبها ولها. وكانت بالنسبة إليه هي التي تبني وطناً قوياً يشبه الوطن الذي كان يعيش في أحلامه وأمانيه. وكان يعتبر نفسه يكتب للأسرة كلّها عندما كان يرى أبناءه يردّدون أشعاره. ولعلّ زوجته ورفيقة دربه الدكتورة ملكة أبيض هي الأكثر معرفة بهذا الجانب حيث تحدّثت إلى «البناء» عن الراحل سليمان العيسى قائلة: لقد ترك بي سليمان العيسى محبة اللغة العربية والشعر ومحبة الاتصال بالحضارات الأخرى. وكان يشجّعني دائماً على تحققيق طموحي. وعملنا معاً في مجال الثقافة. وقد ذكرت عندما كتبنا «رحلة كفاحنا معا»، أنني عندما التقيت به احترمت شخصه وفكره وسلوكه فكان رفيق الدرب المحفّز الدائم على الحلم.
ولفتت أبيض إلى أن شخصية العيسى كانت بسيطة متواضعة متمسّكة بقيم لا يحيد عنها. فكانت تحترم دأبه على الكفاح والتضحية لدعم تلك القيم والمثل.
ونوّهت أبيض بأنّ شعر سليمان العيسى عن المرأة لم ينفصل أبداً طوال مراحل إبداعه الشعري عن نضاله من أجل الوطن والحرّية. فالمرأة جناحه المحلّق في اغترابه ومنفاه، وهي شريكة القلم. فمنذ ديوانه الأول «مع الفجر» كان هذا العناق والالتحام في رحلة الحبّ والمصير.
وأضافت أبيض أنّ حياتهما الأسرية اختلفت بعض الشيء عمّا تعنيه فكرة الحياة الخاصة لدى كثيرين، بما تقتضيه من تلبية حاجات مادية ومعنوية كالدراسة والعمل وتحصيل مكانة اجتماعية. وقالت: حتى أنّ أبننا معن قال مرّة: لقد تعلّمنا في المنزل أن الحياة الشخصية والحياة العامة هما وجهان لعملة واحدة، وإذا كان معظم إنتاج سليمان العيسى قد كُرّس للوطن وقضاياه، فإن حياته في المنزل كانت نموذجاً مصغّراً لهذا التكريس.
وقالت أبيض: كنت حاضرة في شعر سليمان العيسى، وكان يقول إنني أضأت حياته، وكنت السند الخفيّ والحافز الصامت في متابعته الكتابة والعمل من دون توقّف. فقد كانت تشدّني حين أضعف ومن منّا لا يضعف.
يذكر أن سليمان العيسى شاعر سوري مواليد النعيرية في أنطاكية من لواء اسكندرون عام 1921، توفي في 9 آب 2013 عن عمر 92 سنة تلقّى تعليمه وثقافته الأولى على يد أبيه أحمد العيسى في القرية، فحفظ القرآن والمعلّقات وآلاف الأبيات من الشعر العربي. دخل المدرسة الابتدائية في مدينة أنطاكية حيث وضعه المدير في الصف الرابع مباشرة.
شارك بقصائده القومية في التظاهرات التي خاضها أبناء اللواء وهو في الصف الخامس، ثم في السادس الابتدائي. إلى أن غادر لواء اسكندرون بعد سلخه ليتابع مع رفاقه الكفاح ضدّ الاستعمار الفرنسي، وواصل دراسته الثانوية في ثانويات حماه واللاذقية ودمشق.
أتمّ تحصيله العالي في دار المعلّمين العالية في بغداد، بعدئذٍ عُيّن مدرّساً للغة والأدب العربي في ثانويات حلب. وكان من مؤسّسي اتحاد الكتّاب العرب في سورية عام 1969. تزوّج من الدكتورة ملكة أبيض، ولديه ثلاثة أولاد.
أجاد سليمان العيسى الفرنسية والإنكليزية إلى جانب لغته العربية، حصل على جائزة «لوتس للشعر» من اتحاد كتّاب آسيا وأفريقيا، وانتُخب عضواً في مجمع اللغة العربية في دمشق عام 1990.
من أهمّ أعماله الشعرية: «باقة نثر»، «على طريق العمر»، «الثمالات»، «الديوان الضاحك».