لؤم الحيّة الرقشاء
ميراي أبو حمدان
عرفته كهلاً، وحسبته ضعفاً، وطويته ثقلاً حتّى صادفته مرّات عدّة في المكان نفسه من هذا العالم. وتساءلت في صميم قلبي كم أنّ يومه ثقيل وليله طويل وألمه مبرح. وفي كلّ لحظة كانت نفسي تدغدغ أفكاري أنّ لهنيهة الوقت خواتيمها فلا بدّ أن تركن جانباً وتسير بعيداً عن مآسي الزمن.
في كلّ صباح، ألتقي وجهه المتشعّب بالتجاعيد، وعينيه المضيئتين بوجع الحياة، وشاربيه المضرّجين بوشاح الفقر، فيتراقص على وجنتيه صرير البؤس وملامح الشقاء، وتسبح فوق مشيبه حشرجة التعب، وخوف الزمان، وضغينة الخلق.
يمدّ يديه المملوءتين قهراً وحرقة، ويتسوّل مالاً قليلاً فيحصد ذلّاً كثيراً، ويدعو لي بالأمل السديد والعمر المديد، فأنظر إليه نظرة تكرّس الواجب الأخلاقي، وتدعّم الروح الإنسانية، وأسأله عن حاله، فيجيب ممتشقاً جنود الأسى: «حالي، أين هو حالي؟ هائم في طوى اللوعة والعذاب، استكين زاوية أرمي فيها أوجاعي وأحزاني وسوء بقائي».
كان يميل إلى الشاعرية في التفكير، وصدق في الكلام، ونبل في النفس، وفطنة في الجواب وخضوع في أنسه، وكيف لا؟ وقد وضعه القدر أمام هول التجارب، وسندان الفقر والحاجة، فتراه يلمز إلى العتب من ذرائع الزمن، وحقد الأنكاد، وبعد المراد.
وفي يوم مشمس بعطر المحبّة والصفاء، أردت أن أعتكف صحبة الأخيار وولع الإمتاع، وألتمس عالماً وحيداً بعيداً جدّاً عن عالم النعماء، وأهجر إلى حضن الظلال والهجير والأفياء، وأغرق في عروق الجوى واللظى. فجلست معه على قارعة الطريق الذي يأوي إليه كلّ يوم مهيب وسقيم، ويفترش أرض النسيان ويلتحف همّ الأمان. قدّمت له سيجارة، فأخذها وبدأ يلتفت إليها يمنة ويسرة كأنها تحفة يحاول أن يحميها من غدر الأنام. فأشعلتها له وقلت: «اُنفخ أوجاع الزمان، وذلّل عقبات الساعات، واَغضض نظرك عن سنا المشقّات، وحدّق في محاسن الليالي».
نظر إليّ نظرة غلّفتها الشكاية والعدّية، فهتف بصوت خافت مبلول بالعسر والخفيّة: «ألم أقل لك أنّ للزمن أيادٍ طواها الضنى، وكواها الجنى، فأوقفَت لوعة الحبّ، وأسدلت ستائر الدجى، واحتفلت بلؤم الحيّة الرقشاء، فرقصت على رفاة النسائم البغضاء؟».
أتدري يا نديم العمر أنّ للإنسان دفتراً حيك له سداد الأيام وأنا حيك لي المرارة والرجام… فتنهّد الصعداء اقتلعت معها غبار الآهات، عندئذٍ تركت مكاني وعدت أدراجي وسافرت مع أمنياتي إلى أقاصي الأرض لربّما أجد منفذاً من سقطات الرياح وغدر الدهور.
وبعد حين من الزمن، قصدتُ ملتقى الأحزان كي أفتّش عن ذاك الكهل، فعلمت أنه مات قتيلاً على أرصفة الطرقات بعد أن دهسته سيارة الموت، وجعلته أرجوحة في يَديّ الجرّاح. حينذاك أيقنتُ أنّ الحياة سلبته السعادة وأقفلت في وجهه سبل الهناء، ورجمت أحلامه وصفاءه، وأثلجت نعماءه، وبخلت عليه بالشقاء والألم والعذاب، فشعر باشتياق إلى الرحلة الأبدية، والحلم الهزيل لملاقاة تراب العزّة والأنفة، فرحل مودّعاً فضائل المكارم، مرتدياً ثوب الهجران، فبات بين أحضان الدعة والسلوان.
أتدري يا عاشق النوم الطويل أنّ للإنسان دفتراً حيك له في سداد الأيام، وأنت حيك لك السلام والرضوان في كنف بارئ الكون، فقهرت ضراغمة اللئام وحجبت فحيح السهام. نَمْ قرير العين ساكن الروح يا صاحب العزّة والوئام.