إضاءة
النمسا ـ طلال مرتضى
من غير المجدي أن نتجاهل أن الكتابة بشكل عام فقدت سلطتها على القارئ، ولم تعد كما كانت زاداً حقيقياً له كما السالف عندما كانت قصيدة واحدة قادرة على إثارة بلبلة بين بقعتين جغرافيتين. ورُبّ بيت شعر ـ أو مقال ماـ أحيا ذاكرة أمّة!
من الظلم ألا نصدق كيف كان الكَتَبة بشكل عام يديرون دفّة السياسة ويحرّكون مشغّليها من خلف ستائر البوح مثل دُمى متحرّكة ومشنوقة بخيوط لا يتلمّسها الرائي بل يعيش خدعتها. على عكس اللحظة صارت مَلَكة القول، ملك يمين للسياسة وللسياسيين، يجيّرونها حسبما تتماشى مصالحهم وافتعالاتهم!
كيف لا؟ وقد دخلت حيّز غيبوبة الضمير ـ أي الكتابة ـ بعدما خلعت عنها ثوب الثوابت، وصار ممرّها الإجباري نحو منصّات التكريم عبر دهاليز السياسة.
وكي لا نذهب بعيداً نحو أقصية التنظير، سننحو مباشرة نحو فتنة السؤال على مرّ السنوات الماضية. ألم تُثِر كلّ الكتابات المكرّمة لغطاً وجدلاً حول إشاراتها ودلالاتها، الظاهر منها والمخبوء، بوصفها حاملَ فكرة المطبوع بعينه؟
ألم يُشَر إلى تلك الجهات المُكرِّمة، بأن وراء أكمتها ما وراءها، من دون الوقوف عند تسمياتها إن كانت قائمة «بوكر» أو «كتارا» أو أيّ جائزة أخرى فلا ضير؟
لعلّي الآن أطوي الصفحة السالفة من مطالع الحكي وأنهج إليَّ بماهية السؤال، طالما أنّ «مصائر»، مرويّة الفلسطينيّ ربعي المدهون التي صدرت في بيروت وعمّان وأخذت طريقها بتخفّف نحو سدّة «بوكر» مكتظّة بتفاصيل البلاد ـ أي فلسطين ـ التي ذهبت أدراج الريح بفضل سياسة التخاذل العربي. تلك المروية التي دوَّنت أدقّ حكايات البلاد، حجارتها، ترابها، عطرها، صعترها، فرحها، حزنها وأخيراً ضياعها، أليس هذا بكافٍ لتنهج صوب دروب الجوائز من غير أن تلمّع صورة من اغتصبها ـ أي فلسطين ـ ولعلها في بعض المفاصل ساوت بين الضحية والجلّاد؟!
أجزم أنّ المدهون وقبل أن يخطّ أيّ كلمة في مسودّتها، كان قد رسم سالفاً دربه أولاً إلى «بوكر». لأن «مصائر» ـ مرويته ـ ليست إلا لبنة أساسية في جدار التطبيع!
لربما يستشفّ البعض أنني أكتب هذا فقط لإثارة جدل ولغط حول المروية، أو لتحقيق مكاسب قرائية عندما أكتب باطلاً يراد به حق. سأنحو من دون مواربة نحو مَواطن الأسئلة وأترك بين السطور بعض فراغات شاغرة علّ أحدكم يضع فيها جواباً مناسباً.
هل يكفي أن يندّد أو يلعن المدهون أوروبا والنازية تحديداً التي «أحرقت اليهود» وطردتهم من جغرافيتها، لتصير فلسطين أرض ميعادهم؟
نعم… كان هذا مفازاً من الرواية، فالظلم الذي لحق باليهود في أوروبا جعلهم ينتقمون من العرب وتحديداً أبناء فلسطين!
والسؤال التالي هنا، إلى أيّ حدّ صار هذا الفلسطينيّ طيّباً ومسامحاً وكريماً حتى مع من اغتصب بيته وقتل أخوته وجعل منه غريباً في بلده، ومدينته وحتى حيّه؟
هكذا صوّر المدهون فلسطينيّي الداخل وذلك عندما «دلقت» المستوطِنة اليهودية «الكاز» على جدار بيت بطله «محمود الدهمان» وأضرمت به النار.
وحين سألت الشرطة «الإسرائيلية» «محمود»، هل تريد تسجيل شكوى بحقّ تلك المرأة؟ قال ـ بتصرّف: «أنا مسامحها… بيناتنا جيرة قديمة… وهي مرا وحيدة وما لها حدا»!
لست أدري، هل هي «ديمقراطية إسرائيل» أم هي كرم الفلسطينيّ الزائد؟
لكن الأمر لم يتوقف هنا فحسب، فقد برع الكاتب في هذا الشوط بتمرير هدف مباغت على القارئ، بل شلّ حركة تفكيره تماماً حين أشغله في مضامير أخرى كي لا يقبض على معنى الكلام ورسالته المراد إيصالها إلى من يهمه الأمر!
استطاع بعناية العارف أخذ شهادات منقولة عن قال… يقول، وعلى طريقة حدّثني ابن هشام، عن مذبحة «دير ياسين». فقد أشغل القارئ بفاعلية الوصف، وبثّ التصاوير المدهشة في عيون القارئ المتعطّش إلى تناول جرعة مسكّنة من «ريحة البلاد» وهواها.
التصاوير التي أكدت في النهاية أنّ «دير ياسين» البلدة لم يعد من أطلالها على الأرض سوى بضعة حجارة ليس إلا، مشتّتة في الأرجاء ، في حين وعندما تطرّق إلى موضوع المذبحة، تحدّث بخجل على ألسنة شخوصه وبحسب استنطاقهم بتصرّف: «الحديث عن مذبحة دير ياسين أمر لا يحبّذه الإسرائيليون، ويعتبره الكثيرون منهم شيئاً منغّصاً ومزعجاً…».
أليس هذا بكافٍ لـ«مصائر» بأن تعرج نحو سدّة «بوكر» أو ترسم مفازاً جديداً نحو «نوبل» بحدّ ذاتها تحت معنون التعايش السلميّ؟
بنائياً، استطاع الكاتب إضافة نكهة إلى سرده عبر الحوارات بين الشخوص. وكلّ شخص بحسب وضعه الاجتماعي، وخصوصاً ما جاء عبر اللهجة الفلسطينية المحبّبة، علماً أنّ الحوارات التي كتبت باللغة الانكليزية أتت مثل حشوٍ ليس إلا، كون مفرداتها عادية جداً مثل «Of course darling of course» وكلمات قريبة من سياقها وشاكلتها.
«مصائر»، مروية صوّرت جغرافيا البلاد بعناية فائقة، لأنها كتبت من أرض البلاد. من الغبن ألّا أصرّح بأنني شممت بفاعلية السرد ليمون حيفا، وغبت مشبعاً بقصص السالفين ممّن تعاركوا على أسوار عكا.
نعم.. وحدها الصلاة في كنيسة القيامة في بيت لحم كافية لقيامة مسيح تالٍ من فلسطين، وزيارة بيت المقدس والصلاة في محاريبها، تعادل في عيون قارئها معراجاً ثانياً لنبيّ من هذه البلاد نحو مفاز السماء، اسمه ربعي المدهون، وليس الصعود على سلّم الدم الفلسطيني الذي تبادله السياسة بـ«بوكر».