لافروف في الخليج: عاكس للتراجع الأميركي…
د. وفيق إبراهيم
بيع السلاح ما عاد مرتبطاً بالتقارب السياسي والإيديولوجي كما كان في عصر «الراحل» الاتحاد السوفياتي… أصبح مجرّد حدوث تقارب موسمي كافياً لإغراق الأسواق به.
فهل تندرج جولة وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف إلى الخليج ضمن الإطار الاقتصادي الصرف؟ يعرف لافروف الكثير الحنكة والخبرة أنّ هناك علاقة جدلية بين التقدّم العسكري والعلاقات السياسية والتحالفات والأسواق الاقتصادية. وأضيف إلى هذه المعادلة، التسلّل من خلال الأزمات الإقليمية والدولية لتحقيق تموضعات جديدة في السياسة والاقتصاد.
لذلك تندرج جولة «الرفيق» لافروف ضمن المعادلات المفترضة كلّها. فهو ممثّل لقوّة عسكرية عظمى أصبحت عرجاء منذ انهيار «المورّث» الاتحاد السوفياتي في 1989 تاريخ سقوطها في سبات عميق، واستفاقت مع الرئيس الحالي بوتين، الذي اعتبر أنّ عودة بلاده إلى دورها العالمي يمرّ بسورية التي تتعرّض لهجوم إرهابي كوني مدعوم خليجياً وتركياً وغربياً أميركياً، ولأنّ قيادة بوتين تعرف أنّ سورية بوّابة المشرق و«الشرق الأوسط»، والصديقة التاريخية، فإنّ عودته إليها تمّت على وقع تسعين ألف غارة لسلاح الجو الروسي، أدّت إلى تقهقر الإرهاب إلى بؤر ضعيفة في سورية وتراجع الدور الأميركي.
هذا هو الإطار الذي تجسّده جولة لافروف استفاد أولاً من نصر روسيّ كبير في «نبض الشرق»، فذهب إلى الخليج يحمل تحت إبطيه «دور بلاده الفعّال» في الحرب على سورية، كجواز مرور يتيح له البحث في أزمة الخليج التي شهدت عجزاً تركياً وغربياً في العثور على حلّ لها.
وكان لافروف صريحاً عندما وضع عنوان جولته: «البحث في الأزمتين الخليجية والسورية»، مضيفاً أنّه يريد تحرّكاً سلمياً نوعياً لدول شبه جزيرة العرب في أزمة سورية.
الواضح أنّ لافروف في الخليج لتأكيد عودة الدور الروسي إلى «الشرق الأوسط» من خلال إنجازاته في سورية. أمّا الأسباب فكثيرة الوضوح، لأنّ دبلوماسياً بعراقة «الرفيق سيرغي» يعرف أنّ الأزمة الخليجية تندلع في «قلب الجيوبولوتيك الأميركي» الذي ينشر قواعده في هذه المنطقة بشكل مرعب، ولا يسمح بالتجذّر لأيّ كان.
لكنّ أزمة الخليج حاجة أميركية لأسباب عدّة: الابتزاز الاقتصادي، وهو ما تفعله واشنطن دورياً.. وحاجة سياسية وجيواستراتيجية، لأنّ تقهقر إرهاب داعش يفرض على السياسة الأميركية البحث عن بدائل تحت شعار توجيه الاتهام بدعم الإرهاب إلى الأطراف التي تستطيع التحمّل. فأميركا بلد فيها مؤسسات محاسبة داخلية في الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنوّاب، مع أحزاب فاعلة.
ولا ننسى أنّ أزمة الخليج تعكس صراعات تركية مع السعودية ومصر عنوانها السطحي قطر، وصراعاً سعودياً قطرياً على زعامة الخليج، وصراعاً سعودياً بحرينياً إماراتياً مع إيران، وهي أيضاً صراع بين الوهابية والإخوان المسلمين والفكر الملكي الوراثي والخلافة الإسلامية، لذلك فهي شديدة التعقيد وصعبة الحلّ من دون الهراوة الأميركية المباشرة غير الممكن استعمالها في مرحلة تراجع واشنطن.
وبما أنّ المنطقة لا زالت تطفو على بحر من الذهب، فهناك تدفّق غربي وآسيوي يحاول إيجاد معادلات لتسوية الأزمة الخليجية في الظاهر، لكنّه ليس إلا محاولة للتموضع الاقتصادي في محور على حساب محور آخر. ففرنسا تموضعت اقتصادياً من خلال شركاتها في إيران وقطر، ولم تهَب العقاب الأميركي، فلماذا تمتنع موسكو عن إيجاد دور خليجي لها، وهي التي أسّست للتراجع الأميركي مع حلفائها في الدولة السورية وإيران والمقاومات الإسلامية في لبنان والمنطقة؟
لافروف إذن، ليس مجرّد بائع سلاح متجوّل، بل يمثّل قوة عظمى أصبحت تحمل همّ أمن المنطقة، بما تتضمّنه من إمكانات اقتصادية هائلة على مستوى النفط والغاز والاستهلاك، لأنّها منطقة غير صناعية.
وبما أنّ العالم يمرّ حالياً من مرحلة التحوّل من «البترول» إلى طاقات بديلة على رأسها الغاز، فإنّ روسيا التي تحتلّ الموقع الأول في لائحة المنتجين معنيّة بتنظيم معادلات الاستخراج وضبط أسواق البيع، وأهمّ الدول المنتجة بعد موسكو التي تحتلّ الموقع الأول هي إيران وقطر والجزائر، ما يجعل من الدوحة موقعاً جاذباً للسياسات العالمية، بالإضافة إلى الساحل الشرقي للمتوسط الذي تقول معلومات المراكز الاقتصادية إنّ سورية تحتوي على كميات ضخمة من الغاز، قد تجعلها من منتجيه الأساسيين.
كيف يمكن تفسير هذه التحليلات؟
هذا يعني أنّ قطر قابلة لأن تصبح محوراً خليجياً أكبر من جاراتها، وتفسّر في الوقت نفسه سبب الصراع الكوني على سورية.
لذلك لافروف في الخليج وعينه على تسويات مستقبلية للغاز، ومعادلات تنظم استقرار النفط الباقي لأكثر من نصف قرن في أسواق الاستهلاك والمرتبطة أسعاره باستقرار الاقتصاد الروسي.
واهتمامه منصبّ على تأمين انسحاب خليجي هادئ من أزمة سورية، تدفع في اتجاه تخفيف قلق الدول الخليجية وتهدئة مخاوفها من إيران، وضبط العراق في إطار التسويات غير «الأصولية». لكنّ روسيا المتعثرة اقتصادياً تشعر أنّ سلاحها الذي استعملته في سورية أصبح قابلاً للتسويق، لأنّه أثبت براعته وجدارته في حروب صعبة.. لقد فتك بعشرات الآلاف من الإرهابيين المتحصّنين بسواتر ضخمة من الباطون المسلّح، ومنتشرين على مساحة مئة ألف كيلومتر مربع.. الأمر الذي يشجّع دول الخليج الحريصة على «امتلاك الأفضل» على عقد صفقات ضخمة مع روسيا، كما فعلت تركيا والكثير من بلدان العالم من دون نسيان إيران التي تزوّدت بمنظومة روسيّة للدفاع الجوّي والهند وبلدان أخرى.
جولة لافروف إذن، هي إعلان روسي صريح بالعودة إلى مسرح التفاعلات العالمية من أميركا الجنوبية، حيث تحاول واشنطن في الساعات الأخيرة تأديب البلدان المتمرّدة على هيمنتها في فنزويلا وبوليفيا والبرازيل، إلى جنوب شرق آسيا، حيث يفعل الكوري الشمالي ما يحلو له على وقع الغضب الأميركي والياباني والكوري الجنوبي مستنداً إلى إيماءات روسية وصينية بالدّعم.
وها هو «الشرق الأوسط» ينضمّ إلى لائحة الثائرين على الهيمنة الأميركية، فهل تستطيع موسكو استيعاب المتمرّدين وتحقيق معادلات مرجعية جديدة؟
هذا ما تؤشّر إليه الأزمات المتشعبة في العالم وعجز واشنطن عن استيعابها… بقي أن نعرف ماذا باع لافروف عروضه الذهبية في بلاد الذهب؟