قراءة اقتصادية في كتاب «أزمة 2007 المالية العالمية وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية… لبنان نموذجاً» لحسين دياب

د. عدنان أحمد بدر

لا يمكن اعتبار أزمة 2007 المالية العالمية كسابقاتها من الأزمات المالية، أو حدثاً عارضاً يمرّ به النظام الرأسمالي ليعود ويستعيد عافيته ويستمر. إنما وبحسب الكاتب، يمكن لهذه الأزمة أن تشكّل نقطة مفصلية في تغيير النظام المالي العالمي، أو أقله نقطة البداية التي تؤسّس لمرحلة جديدة من مراحل تطور النظام الرأسمالي، باعتبارها الحلقة الثالثة الأوسع والأكثر ضرّراً على دول العالم كافة وعلى نظمها الاقتصادية.

إذا كان صحيحاً أنّ الرأسمالية قد مرّت على التوالي بمراحل الرأسمالية التجارية فالرأسمالية الصناعية، ثم الرأسمالية المالية، فإنها تمرّ اليوم بمرحلة جديدة من مراحل تطورها بعد الثورة المعلوماتية التي جاءت لخدمة مشروعات هذه المرحلة. فما حدث في تشرين الأول سنة 1929، وتشرين الأول سنة 1987، في سوق الأسهم ظلّ محصوراً في سوق المال ولم يتعدّاه إلى المجالات الاقتصادية. أما الذي حصل سنة 2007 وتظهّر في تشرين الأول سنة 2008، فكان مختلفاً تماماً، ذلك لأنّ الأزمة لم تبدأ في سوق الأسهم، بل بدأت بإعلان إفلاس أكبر المصارف وأكبر شركات التأمين.

وإذا كانت أزمة 2007 المالية تشكّل الحلقة الأخيرة من سلسلة الأزمات السابقة عليها، فلا بدّ من ربطها بما سبقها من أزمات من ناحية أولى، واعتبارها نقطة تحول في النظم المالية والاقتصادية العالمية من ناحية ثانية. وهذا ما تمّت الإضاءة عليه في القسم الأول، بالحديث عن النظام الرأسمالي وأزماته.

ففي مراحل تطور النظام الرأسمالي، تمّ التركيز على مراحل ثلاث:

ـ الأزمة المالية العالمية الأولى: وهي أزمة 1929، وأطلق عليها اسم مرحلة نظام، وانتهت بالركود الاقتصادي الكبير. والإشارة تكمن في علاقة هذه المرحلة بأزمة 2007.

ـ الأزمة المالية الثانية: التي امتدت من سبعينات القرن الماضي حتى الأزمة الآسيوية سنة 1997، وأطلق عليها في مرحلة السبعينات مرحلة العهد الجديد، وانتهت بأزمة الركود التضخمي. وتجدر الإشارة أيضاً إلى علاقة هذه الأزمة بأزمة 2007.

ـ الأزمة الثالثة: وهي أزمة 2007 المالية العالمية، ويمكن أن يطلق عليها اسم مرحلة الفقاعة المالية. ولعلها ستنتهي بنتيجة أصعب من سابقتيها.

وإذا كانت الأزمات المالية عبارة عن محطات تمرّ بها الاقتصادات في مسارها التاريخي، فهي تؤشر إلى هشاشة وسوء أداء النظام المالي. وإذا كانت الليبرالية بحلتها الجديدة، مرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالي، فالأزمات المالية في النظام الرأسمالي سابقة على أزمات النيوليبرالية. لذا هناك أزمات رأسمالية وأخرى نيوليبرالية. وإذا كانت هناك أزمة مالية يمكن تداركها، وفقاعة مالية عصيّة على الإصلاح والتخطي، إلا أنه في كلا الحالتين يمكن الاشتراك في عدة أنواع من الأزمات ومنها: أزمات العملة، الأزمات المصرفية، عدم استعادة الثقة في الأسواق، مخاوف المستثمرين، وأهمها أزمة الأسواق المالية، التي عُرّفت حديثاً بالفقاعة المالية، وتتحدّد بارتفاع سعر الأصول لتتجاوز قيمتها العادلة بشكل غير مبرّر وبهدف الربح، وليس بسبب قدرة هذا الأصل على توليد الدخل. في هذه الحالة يصبح انهيار سعر الأصل مسألة وقت، وعندما يكون هناك اتجاه قوي لبيعه، تبدأ حالات الذعر في الأسواق وتنهار أسعار الأصول ذاتها وتمتد إلى الأصول الأخرى في باقي القطاعات. فالفقاعة المالية لسنة 2007 تختلف عن أزمتي 1929 و1987، اللتين كان سببهما انخفاض مؤشر السوق المالية لأكثر من 20 في المئة.

وفي أسباب ونتائج أزمة 2007 المالية العالمية، يمكن بداية تشخيص أزمة 2007 المالية، بنتيجة التحوُّل والفوضى في الإنتاج، والتناقض بين الإنتاج والاستهلاك. فبعد أن كانت الأزمات تنتج عن نمط الإنتاج وفروعه، أصبحت تنتج عن ثقافة الهوس المالي والربح السريع، غير المستند إلى أي نمط إنتاجي، والمُتفلِّت من الرقابة والضوابط، ما أنتج حالة الفقاعة المالية تحت مُسمّى الأزمة المالية العالمية. إذاً، أزمة 2007 المالية هي نتيجة تراكمات وسيرورة، وتحوّل من الاستثمار المباشر إلى الاستثمار غير المباشر. ولنتائجها انعكاسات على دول العالم كافة. وفي الأسباب تمّ تسليط الضوء على بعض منها:

1ـ إلغاء الضوابط التي تنظم نشاط أسواق المال: يعود ذلك إلى عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان، بإلغائه القوانين التي تضع ضوابط تحدّ من حرية الأسواق، ومن ثم قانون تحديث الخدمات المالية لسنة 1997 في عهد الرئيس كلينتون، وهذا القانون يشجّع التنافس والكفاءة، وعلى غرار ذلك رفعت المؤسّسات المالية كلّ الضوابط التي تنظم عملها وأصدرت أدوات مبتكرة سُميت بالمشتقات.

2ـ أزمة الرهن العقاري: بعد ازدهار سوق العقارات بين 2001 و2006 مُنحت القروض العقارية المرتفعة المخاطر من قبل البنوك وشركات الإقراض لأصحاب سجلّ ائتماني ضعيف أو غير موجود. وبتغير أسعار الفائدة انخفضت أسعار الأصول ما قلص من حجم ضمانات البنوك.

3ـ توريق القروض الرهنية: عرفت أسواق المال مبتكرات مالية جديدة، عُرفت بالمشتقات المالية، ومن أبرز هذه الابتكارات، عمليات التوريق، حيث يتم بيع الدين إلى شركات متخصِّصة، لتتداوله في السوق الثانوية بعد تحويل هذه القروض إلى أوراق قابلة للتداول، وتُصدر هذه الشركات سندات إسمية بقيمة هذه الديون وتطرحها بعلاوة أو خصم إصدار وتحصل مقابلها على سيولة. وبتكرار هذه العملية تنتقل الملكية إلى عديدين داخل البلد وخارجه لأصل واحد ويصبح للعديد من الأفراد والمؤسّسات حقوق على العقار نفسه، وتصبح قيمة الأوراق المالية المصدّرة أكبر بكثير من قيمة العقار نفسه. فيزيد العرض وينخفض السعر. لذا تضاعفت عمليات التوريق هذه بنسبة 300 في المئة خلال عشر سنوات، فوصلت سنة 2007 إلى 10 آلاف مليار دولار ومثّلت 40 في المئة من سوق السندات.

4ـ الاقتصاد الرمزي: الذي زاد 40 مرة عن الاقتصاد الحقيقي، فتحولت النقود من وظائفها التقليدية إلى سلعة في الأسواق، حيث يدور في الأسواق العالمية ما يزيد على 100 تريليون دولار ضمن ما يزيد على 800 صندوق استثمار. ويتم التعامل يومياً في ما يقرب 1500 مليار دولار، أي أكثر من 2،5 مرة الناتج القومي العربي.

5ـ بطاقات الائتمان وتنوعها وتوسع انتشارها من دون وضع سقوف لها، والاستمرار في الإنفاق بما يفوق الإنتاج، فسهولة التسليف ووفرته ساهما في خلق جو استثماري مفرط وغير واقعي. واستمر هذا لعقد من الزمن لتظهر نتائجه مع أزمة 2007 المالية العالمية.

أسباب فكرية ونظرية

هناك أسباب فكرية ونظرية تعود إلى مناهضة نظريات اقتصاديات الطلب من قبل أصحاب النظرية النقدية ونظريات اقتصاديات العرض. وهكذا نجد أنّ أحد أهم أسباب أزمة 2007 يعود إلى الفقه الاقتصادي المنحاز ضدّ تدخل الدولة مع هيمنة الأسواق مقابل غياب تامّ للرقابة والضبط.

ومن الأسباب أيضاً، فكّ ارتباط الدولار بالذهب، والانتقال من سعر الصرف المُثبت إلى سعر الصرف المُعوّم. وهذا ما أطاح بأهم الركائز التي قام عليها صندوق النقد الدولي، ما أدى أيضاً إلى التقصير الرقابي والتنظيمي وانعدام الشفافية. أضف إلى ذلك السياسة النقدية والتسليفية الانفلاشية التي اتّبعها الفيدرالي المركزي الأميركي.

وبعد هذا العرض يطرح الكاتب سؤالاً ومن ثم يجيب: هل أزمة 2007 هي أزمة مالية ناتجة عن سوء إدارة أم أنها أزمة نظام اقتصادي متعثّر؟

في المعالجة ومع العودة إلى تاريخ الأزمات المالية وتواترها، تبين للكاتب أنّ هذه الأزمة هي أزمة نظام رأسمالي متعثّر ولا تصحّ فيها مقولة الأيدي الخفية ، وكذلك أزمة فقاعة مالية خرجت عن تأطير الإدارة، فوصلت الرأسمالية بمراحل تطورها وتفلتها من القيود إلى التدهور ما إن غابت الأطر الرأسمالية، والاختناق ما إن زاد التأطير.

النتائج المالية والاقتصادية

وفي النتائج، قال الكاتب إنّ انعكاسات الأزمة لم تأتِ أُكُلها بعد. وكون الأزمة مالية بامتياز يمكن تناول نتائجها للجهة المالية كما للجهة الاقتصادية على مستوى كلّ الدول:

1ـ فعلى مستوى الاقتصاد العالمي، تباطؤ وكساد اقتصادي، نقص ائتمان، تقليص نفقات، انخفاض حجم الاستهلاك، إفلاس مؤسسات مالية عملاقة، انخفاض المؤشر العام في أهم البورصات العالمية، تسونامي في أسواق المال.

2ـ وعلى مستوى الاقتصاد الأميركي، ركود اقتصادي أدى إلى انخفاض الاستهلاك، تخفيض الدرجة الائتمانية الممنوحة للسندات المغطاة بأصول عقارية، ظهور بدائل حقيقية للدولار، تقهقر السيطرة الأحادية، ملامح سقوط أو انحراف مسار النموذج الرأسمالي بتدخل الدولة عليه لإنقاذه.

3ـ أما على مستوى اقتصادات الدول النامية، فتباطؤ اقتصادي سابق لحدوث الأزمة، تراجع حجم الاستثمارات، تراجع أهم مصادرالتمويل وهي التحويلات من الخارج. إلا أنّ هناك نتائج إيجابية في هذه الدول، نجدها في إمكانية ازدهار بعض القطاعات الراكدة، باعتبارها ملاذاً آمناً، وقد تَحوّل بعض دول العالم الثالث إلى مناطق استقطاب، خاصة التي توفّر ضمانات مالية وفرص استثمارية لرؤوس الأموال الهاربة، العودة إلى الاستثمارات التقليدية وزيادة الاهتمام بالاستثمارات المباشرة على حساب الاستثمار بالأوراق المالية استثمار غير مباشر .

4ـ وبالنسبة إلى الدول المتقدمة، فتواجه مرحلة انكماش عام بعد أن أصبحت مصادر الاقتراض من البنك الدولي بحالة نضوب. وبالنسبة إلى البلدان العربية فهي تعاني من تشوّه هيكلي ناجم عن تزايد تسرّب أو نزوح رأس المال إلى الخارج، وهذا لا يقتصر على البلدان المصدرة للنفط.

يتضح من كلّ ما سبق أنّ أزمة 2007 هي أزمة مالية اقتصادية لم يُشهد لها مثيل، والأموال في سوق المال والأسهم ليست أموالاً حقيقية، وسعر السهم لم يكن أبداً مالاً نقدياً، إنما مجرد قيم افتراضية، والانهيار الاقتصادي محمّل بجرثومة فنائه منذ البداية، وما خسارة بنك «ليمان» إلا «النقطة التي أفاضت الكوب». فتراكم الأخطاء أصبح جزءاً من حلقات التداعي في السياسات الاقتصادية التي تتبعها الأنظمة الرأسمالية، وهذا ما يخلق جواً للتفكير في نظامين اقتصادي ومالي جديدين، بعد أن جاءت النيوليبرالية خافية ما هو جوهري ومبلورة حقبة ثالثة للعولمة، لكن بالأسياد غير التقليدين، وإن بقوا مشاركين.

الأثر الاقتصادي والاجتماعي على لبنان

يعالج القسم الثاني من الكتاب التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية لأزمة 2007 على لبنان.

بالنسبة للانعكاسات على القطاع المالي، ففيما تواجه بعض دول المنطقة تراجعاً في أوضاع ماليتها العامة، وتصنيفها السيادي والائتماني، نجد إعلان وكالة «موديز» عن رفع تصنيف سندات الحكومة اللبنانية، مبرّرة ذلك بقوة القطاع المصرفي وقدرته على التأقلم، واستقرار الودائع، ومحافظة المصارف اللبنانية على رسملة قوية وقدرتها المستمرة على استقطاب الودائع. وبذلك يمكن اختصار انعكاسات الأزمة مالياً لسببين رئيسيين:

الأول: إدارة نقدية فعالة، سياسات حكيمة من حاكمية مصرف لبنان، صناعة مصرفية مقوننة ومضبوطة، إنطلاقاً من قاعدة أنّ الاقتصاد الحر لا يتناقض مع وجود ضوابط على الأصول تنظّم حركة رأس المال والتوظيفات. ولعلّ التعميم الأبرز الذي حمى المصارف من الدخول في العمليات الموبوءة، هو التعميم الذي صدر سنة 2004 والذي يمنع المصارف من الاتجار بالمشتقات المالية.

أما السبب الثاني: فهو خطأ السياسات المالية مع بداية تسعينات القرن الماضي، بهدف تثبيت سعر الصرف، وإصدار مصرف لبنان سندات خزينة بفائدة تفوق نسبتها 40 في المئة، وهذا ما دفع بالبنوك وكبار المتمولين إلى الاستثمار المضمون في سندات الخزينة من دون البحث عن مصادر ربحية خارجية.

إنّ القطاع المصرفي في لبنان يدعم الدولة، بينما في الخارج الدولة هي التي تدعم المصارف. ولولا هذه الأحجية لكانت المصارف اللبنانية دخلت في بؤرة المشتقات المالية، وحصل لها ما حصل لبنوك الدول الكبرى، ولكانت الأزمة أصابت الناس قبل المصارف، والمصارف قبل الدولة.

وتبقى مشكلة تعاظم الدين العام في لبنان، والأثر التراكمي لخدمته، ومدى تفاقم وتأثير هذا في توسيع الأزمة مالياً واقتصادياً واجتماعياً، مصدر قلق للدولة وللمواطنين، بعد أن زادت نسبة الدين عن النسب المقبولة عالمياً ووصلت إلى 170 في المئة من الناتج المحلي، ولا نجد نصف هذه النسبة في البلدان المتطورة. فأين يكون موقع لبنان في الرسم البياني لنسب الدين من الناتج القومي؟

أما في الانعكاسات على الاقتصاد اللبناني، ينم المشهد اللبناني عن عصبيات مذهبية وطائفية، وانقسامات حادة، وبطالة وركود اقتصادي، وأزمة مديونية مستعصية، وفساد إداري، كلّ هذا قبل تبلوُر أزمة 2007 المالية العالمية أو قبل الحديث عنها. ولم تتوان بعثة البنك الدولي بعد عجزها عن تقييم الوضع الاقتصادي في لبنان عن إصدار وثيقة استعملت فيها توصيفات «زبائنية»، هيمنة، مصالح خاصة، والاقتصاد اللبناني هو اقتصاد سياسي طائفي. فالإصلاح ليس عملية تحسين مواقع على حساب مواقع أخرى تكون نتيجتها صفراً، فهناك تفعيل لكلّ قطاع على حدة، وهذا غير موجود في لبنان.

لم تكن لأزمة 2007 المالية انعكاسات سلبية على الاقتصاد اللبناني لسبب «توعكه السابق على الأزمة»، ولم تحمل إيجابيات لسبب السياسات الاقتصادية المتبعة والمُشوِّهة للاقتصاد في لبنان. وبقي للقطاع العقاري بمنأى عن ارتدادات الأزمة، فلهذا القطاع ميزة خاصة، حيث أنه حافظ على طلب حقيقي مقابل عرض حقيقي، والعرض لم يكن أبداً على فرضيات غير مؤكدة، والطلب ارتبط بحجم الحاجة، عكس ما حصل في دول الخليج، حيث انهار القطاع العقاري عند أول هزة اقتصادية، لأنّ الهدف كان الربح والمضاربة وليس الحاجة. إنّ استقرار السوق العقارية في لبنان كان رهناً بتوفير التوازن بين العرض والطلب والشراء للحاجة من دون الاتجار، خاصة بعد ضائقة سنة 2005 وحرب تموز سنة 2006.

أما في الانعكاسات الاجتماعية، فبعد أن بدأت معظم الدول النامية مع بداية الألفية الثالثة مرحلة جديدة بعنوان الإصلاح الاقتصادي التي تستند إلى آلية السوق تحت غطاء إملاءات صندوق النقد الدولي وتطبيق برامج التثبيت الهيكلي والإصلاح الاقتصادي ، فقد لحظنا تزايداً في عدد الأغنياء والفقراء على حساب الطبقة الوسطى، وازدادت التحديات الاجتماعية من تحدي السكان إلى تحدي الأمان الاجتماعي والبطالة والتشغيل الكامل ، وإنّ أية انعكاسات مالية واقتصادية، لا بد لها أن تترك آثارها الاجتماعية بشكل مباشر أو غير مباشر.

يعدّ لبنان، ومنذ الاستقلال، بلداً خدماتياً تحكمه الحرية الفردية بأوسع مجالاتها، والاقتصاد الحرّ مُعطى طبيعي لنظامه الاقتصادي، والدولة مجرّد تعبير عن التعدُّدية الطائفية. فالتشوهات والاختلالات على الصعيد الاجتماعي في لبنان ظاهرة واضحة منذ الاستقلال، لأنّ النظام الاقتصادي الحرّ والسياسي الطائفي، يعجز عن إطلاق عملية تنمية اقتصادية اجتماعية حقيقية، إنما يمكن أن يولّد نمواً اقتصادياً مشوَّهاً ومشوِّهاً للبنية الاجتماعية.

جاءت أزمة 2007 المالية، والحكومة اللبنانية تواجه تحديات اجتماعية كبرى، خاصة لجهة الأمية الوظيفية وتوسع البطالة داخلياً، وقد زادت الهجرة المعاكسة، خاصة من دول الخليج، نسب البطالة وفاقم ضعف التحويلات المشكلة الاجتماعية بسبب التباطؤ الاقتصادي العالمي الناتج عن الأزمة المالية.

وهكذا نجد لبنان مع تبلور أزمة 2007 المالية العالمية، يتمتع بقطاع مصرفي أقوى من الأزمة، وصناعة مصرفية في المراتب الأولى عالمياً، وبقطاع عقاري استطاع أن يحقق التوازن بين العرض والطلب، خلافاً لما جرى في معظم دول العالم، واقتصاده، في المقابل، عاجز عن مواجهة أي أزمة بسبب مشاكل هذا القطاع البنيوية والسابقة على تداعيات أزمة 2007 المالية، وسط واقع اجتماعي يفتقد إلى أسس التنمية عبر السياسات المُتبعة، أكملته تشظيات الأزمة وانعكاساتها على نسب البطالة والأمية الوظيفية والضائقة المعيشية.

لذا يمكن القول، إنّ التشظيات التي أصابت معظم دول العالم جراء أزمة 2007 المالية العالمية، لم تُصب لبنان إلا بالشيء الممكن تداركه، وقد استطاع لبنان الحدّ من انعكاسات الأزمة، إذ لا يمكن القول إنه لا يستطيع الخروج من انعكاساتها، لا بل يمكنه الاستفادة من تأثّر باقي الدول إذا أحسن التدبير المالي وتوأمته مع باقي القطاعات الإنتاجية .

ينهي الكاتب بأنّ مشكلة العالم تكمن في أمرين: الفقر و«الدوت كوم»، إذ أسفرت الأول عن تنامي الفروقات بين الدول وداخل كل دولة، وأدخل الثاني العالم في أتون الأزمة المالية العالمية الفقاعة المالية . وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإنّ نظرة سريعة تؤكد وقوعها في مشكلات كبيرة تخرجها من أحادية الحكم، إلا أنّنا من خلال قراءة متأنية لوضعها من حيث السيطرة التكنولوجية واقتصاد المعرفة ونوعية التعلم ومراكز البحث العلمي، نجدها ما زالت تحتل مرتبة الصدارة عالمياً. ويضيف الكاتب أنّ تراكم الأخطاء أصبح جزءاً حقيقياً من حلقات التداعي في السياسات الاقتصادية التي تتبعها الأنظمة الرأسمالية، وجوهر الأزمات حتى الفقاعة المالية يتمثّل في عدم التوازن بين العرض والطلب، وعجز الفرد عن دفع أقساط وفوائد ديونه، وعجز المجتمع عن شراء ما أنتج، وصناعة مصرفية متفلّتة لتصبح البنوك أكبر من أن تنهار، وإعلان فشل الدولة في عدم تدخلها بل أصبح ذلك لزاماً عليها. وإن دلت أزمة 2007 على شيء فإنها تدلّ على فشل النموذج الرأسمالي المتبع وأقصد النيوليبرالية المفرطة والمتفلتة من أي ضابط.

وبالنسبة إلى لبنان، فإنّ القوانين المصرفية المتشدّدة، في ما يخصّ الرقابة المالية والملاءة والالتزام والتيقظ لإدارة المخاطر، والسياسات المالية غير السليمة ونسب الفوائد المرتفعة وسندات الخزينة السابقة بأكثر من عقد من الزمن على الأزمة، وضعف لبنان الاقتصادي، والأوضاع الاجتماعية التي تعكس مشاكل بنيوية، عوامل شكلت جميعها النقطة المحورية لتخطي لبنان أزمة 2007 المالية العالمية بأقلّ نسبة ضرر وتأثر من كافة الدول المتأثرة. فالخروج بالصفة الأولية من انعكاسات أزمة 2007 ليس لأسباب اقتصادية أو عسكرية كما مصدر الأزمة، إنما هو خلل بنيوي في قوائمه الاقتصادية والاجتماعية والمالية. فالنظام الاقتصادي اللبناني أكذوبة، والواقع الاجتماعي هش ومشوِّه للبيئة الاقتصادية ـ الاجتماعية، والصناعة المصرفية وصمودها في مواجهة الأزمة ناتج عن خطئها أكثر من حكمة الحاكمية. ولبنان لم يدخل لعبة الكازينو لأنه لم يَخبَرها ولم يرقَ حجمه إلى مستوياتها بعد.

خرج الكاتب بتوضيح لقراءة الأزمة، بعد الإشارة إلى الكتابات التي ركّزت على جانب واحد وأغفلت الجوانب الأخرى، ما ضيّع المفهوم الرئيسي لأسبابها ونتائجها، إلا أنّ دراسته خرجت بنتيجة مترابطة، من أسباب تاريخية واقتصادية ومالية وحتى عسكرية، وائتمانية ومؤسّساتية وتوسُّعية استعمارية، إضافة إلى لحظ الأسباب الفكرية والنظرية والفقه الاقتصادي، من نظريات الطلب إلى نظريات العرض، إلى السياسات القائمة، إلى المؤسّسات الخاصة والتفلُّت المالي عبر الصناديق الخاصة المنتشرة في العالم. هذا الربط الجامع بين نظامين ولكلّ أفكاره المفتاحية ، بين نظام لأكبر وأقوى دولة «أثبت عقمه» ونظام آخر لأصغر وأضعف دولة «أثبت مناعته»، لا يمكن العبور بينهما إلا من خلال علاقة النشاط الاقتصادي بدوائر السوق.

صدر الكتاب عن «دار نلسن للنشر» في 471 صفحة، وهو من توزيع دار ومكتبة بيسان 2017.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى