هم كذلك قادة كبار وبسطاء
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
هناك من القادة من يفرض عليك احترامه وتقديره… ليس فقط لسيرته ومواقفه النضالية وصدق انتمائه وموقعه القيادي، بل لسجاياه واخلاقياته وعلاقته البسيطة والصادقة ليس مع تنظيمه وحزبه واخوته ورفاقه، بل مع عامة الناس والجماهير، حيث تلمس الطيبة والإخلاص في تعامله دون تكلف او تصنع، وهكذا كان الرفيق الشهيد القائد الفلسطيني أبو علي مصطفى… كان قائداً ومعلماً ومتعلّماً من الجماهير… كان مدرسة في النضال والكفاح… مدرسة في السلوك والأخلاق… نموذجاً في العمل الوحدوي، وطنيته تتفوّق على حزبيته… كان واسع المدارك والإطلاع… عميق الخبرات والتجارب… لم يكن يحلم بأرصدة في البنوك ولا فلل ولا قصور… ولم تكن تستهويه المظاهر الخادعة البراقة… انتمى إلى مدرسة ثورية… سبقه إليها الكثير من رفاق دربه… ولذلك عند الحديث عن الرفيق القائد أبي علي ندرك أنّه قائد من طراز خاص… في زمن نجد فيه أنّ الكثيرين من القادة او من يتبوّأون مواقع القيادة في الساحة الفلسطينية، لم يدفعوا لا ثمناً نضالياً ولا كفاحياً، ولم يضحّوا لا من أجل شعبهم ولا من أجل قضيتهم، بل كانوا متسلّقين على قيادة الشعب ومواقع القيادة بفعل رداءة المرحلة… والعديد من هؤلاء القادة يمرّ في ذاكرة وتاريخ الشعب الفلسطيني مرور الكرام لا تاريخ يُذكر ولا بصمات إيجابية تسجل له… بل تاريخ كله خيبات وانتفاع وارتزاق وتكسب… وأجزم بأنّ الكثير ممّن يحتلّون مواقع متقدّمة في قيادة الشعب الفلسطيني، هم سبب رئيسي في مأساته… ولا يستحقون سوى أن يلعنهم الشعب الفلسطيني… ولكن اللعنة والسباب لا يجديان بحقهم نفعاً، فلا بدّ من رحيلهم كي تستقيم المعادلة…
أبو علي أنت قائد بحجم وطن، كذلك هم القادة الذين يرحلون أجساداً وتبقى ذكراهم ومبادئهم وأفكارهم خالدة في عمق ذاكرة ووجدان شعبهم… وهذا يكفي، أما قادة الغفلة ومرحلة الهزيمة فلا رحمة عليهم ولا مكانة ولا مساحة لهم في وجدان وذاكرة شعبهم.
تأتي ذكراك السادسة عشرة، والوطن بأمسّ الحاجة الى قادة من أمثالك وأمثال القادة الآخرين الذين حملوا المشروع الوطني وقضية شعبنا على أكتافهم، وكان الوطن والمصالح العليا للشعب الفلسطيني فوق أجنداتهم الخاصة والحزبية والفئوية، فنحن الآن يا أبا علي في مرحلة من أخطر المراحل التي تمرّ بها قضيتنا الفلسطينية ومشروعنا الوطني، حيث مخاطر التبديد والتفكيك والتصفية للقضية والمشروع الوطني حقيقية، والخطر لا يتأتّى عليها فقط من انقسامنا وتشرذمنا الداخلي، بل هناك ما هو أخطر من ذلك بأنّ قوى وأطرافاً عربية، أصبحت شريكة للمحتلّ في مشاريع تصفية قضيتنا، ضمن ما يسمّى بالحلّ الإقليمي، وكثير من تلك الدول تتحلل من التزاماتها الوطنية والقومية، ولم تعد تمارس فقط دور الوسيط مع المحتلّ، بل هي أقرب إلى المحتلّ وشركائه في فرض حلول تصفوية على شعبنا.
أبو علي هم اغتالوك لأنهم يدركون، بأنّ القائد الوطني المخلص لشعبه والملتحم بهموم جماهيره ويعبّر عن نبضها، يشكل خطراً عليهم وعلى وجودهم، لا يريدون أن يتجذّر ويتقوّى نهج وخيار المقاومة في الساحة والشارع الفلسطيني، ولا يريدون لشعارك الخالد عدنا لنقاوم لا لنساوم ، ان يصبح واقعاً ومنهجاً ونبراساً لشعبنا وأحزابنا وفصائلنا، ولذلك كان قرار تصفيتك واغتيالك، ظانّين ومتوهّمين بأنّ نهج وخيار المقاومة واستمرار الكفاح باغتيالك كما اغتالوا من قبلك قادة آخرين مؤمنين بهذا الخيار والنهج… غسان كنفاني والكمالين عدوان وناصر وأبا يوسف النجار ووديع حداد وأبا جهاد وأبا اياد وخالد نزال والشقاقي والشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وأبا عمار… وتلك القائمة الطويلة من قادة شعبنا الذين اغتالتهم أجهزة المخابرات الصهيونية، سينتهي في الساحة الفلسطينية او يحاصر ويتراجع، ولم يتعلّموا من التاريخ بأنّ الشعوب مهما دفعت من ثمن وتضحيات، لن تتخلى عن حقها وخيارها في الحرية والإستقلال والعيش بكرامة.
بعد رحيلك ورحيل الكثير من قادتنا الكبار حالة من التوهان وفقدان البوصلة والإتجاه تسود ساحتنا الفلسطينية، والشعار الذي كنت أنت وغيرك من هؤلاء القادة الراحلين تحرصون على ان يبقى خطاً أحمر لا يمكن لأحد أن يتجاوزه أو يعبث به، بتحريم سفك الدم الفلسطيني بأيد فلسطينية، جرى تجاوزه بشكل فظ وسفك هذا الدم على مذبح الأجندات والصراعات الفئوية على سلطة منزوعة الدسم، ما زلنا نختلف وننقسم ونتشظّى في الصراع والخلاف عليها، حتى بدا وكأنّ هذا الإنقسام يتشرعن ويتأبّد.
هم يا أبا علي يعرفون طريق إنهاء الإنقسام، وهي قصيرة وليست طويلة، ولكن لا تتوفر عندهم الإرادات، حتى بت على قناعة بأنهم لا يمتلكون حق إنهاء الانقسام، فهناك أشخاص وفئات مستفيدة من وجود الإنقسام، وتحققت لها مصالح وامتيازات ومكاسب ومواقع سياسية واقتصادية واستثمارية وقيادية، ستخسرها وتضيع مع إنهاء الانقسام، وكذلك هناك تدخلات عربية وإقليمية في الساحة والقرار الفلسطيني، وهي الأخرى غير معنية بإنهاء الإنقسام، من خلال ارتباطاتها وتحالفاتها، مع الطرف المتناظر معها من القيادة الفلسطينية في الرؤية والموقف والمشروع السياسي، ولذلك كلّ المبادرات واللقاءات والحوارات لم تفلح في قبر الإنقسام واجتثاثه.
أبو علي… المقدسيون عندما توحّدوا بكلّ مكوّناتهم ومركباتهم السياسية الوطنية والدينية والمجتمعية والشعبية صنعوا نصراً على المحتلّ بوحدتهم بإرادتهم، بإيمانهم، بعقيدتهم، بمبدئيتهم، بسجاجيد صلواتهم، وعدم تلوّثهم بأمراض الإنقسام والفئوية المقيتة، انتصروا في هبّة باب الإسباط ومنعوا تقدّم مشروع الاحتلال السياسي لتقسيم المسجد الأقصى مكانياً بعد تقسيمه زمانياً وصولاً لهدم المسجد القبلي وإقامة ما يسمّى بالهيكل المزعوم مكانه.
هبّة باب الإسباط يا أبا علي كشفت عن عجز السلطة بشكل كبير وقصور القوى والأحزاب والفصائل، وعدم ارتقائها الى مستوى الهبّة وعدم قدرتها على التقاط الحدث واللحظة المناسبة، لكي تقود الهبّة برأس قيادي واحد وموحّد، بل استمرّت في مناكفاتها ومسلسلها الدائم والمتواصل في التحريض والتحريض المضاد وتحميل المسؤوليات، وكذلك كان حال أجنحتها العسكرية للفصائل، تهديد ووعيد وشعارات فارغة، ليس لها أيّ رصيد.
أبو علي أنت وأمثالك غرستم في الشعب والجماهير قيماً وأفكاراً ومبادئ، ستبقى خالدة فيهم، يستلهمونها في نضالاتهم وتضحياتهم، ويقسمون ان يسيروا على هديكم ونهجكم، رغم قسوة المرحلة ورداءتها، ولكن الشعوب لم ولن تتعب أو تنهزم، وستبقى تناضل وتواصل المشوار حتى تحقق أهدافها في الحرية والإستقلال، وإن تعبت او تراجعت او انهزمت قياداتها.
Quds.45 gmail.com