تهويد القدس الشرقية وانهيار مشاريع التسوية!

أسامة العرب

يعكس إقدام الحكومة «الإسرائيلية» على عقد جلستها الأسبوعية، قرب ساحة البراق في القدس القديمة المحتلة، وذلك بمرور 50 عاماً على احتلال الشطر الشرقي منها، سعي نتنياهو وحكومته من أجل تهويد القدس المحتلة بكاملها، وتشويه هويتها الفلسطينية. فالاحتلال «الإسرائيلي» يركز اليوم على بناء المستوطنات في مدينة القدس، وعلى ضمّ أربع كتل استيطانية كبرى للقدس المحتلة واقعة جنوب بيت لحم، بالإضافة لضمّ مستوطنة «معاليه أدوميم» من الشرق للقدس، وإخراج أحياء شعفاط وكفر عقب من القدس بهدف تغيير الخارطة الديمغرافية للمدينة.

ويعيش اليوم في القدس الشرقية حوالي 250 ألف مستوطن إلى جانب 300 ألف مواطن فلسطيني، إلا أنّ ضمّ المستوطنات إلى مدينة القدس سيؤدّي إلى قلب الميزان الديمغرافي في المدينة، وإلى إضافة أكثر من 200 ألف مستوطن إليها، فوحدها مستوطنة «معاليه أدوميم» إذا ما ضمّت إلى شرق القدس ستؤدّي إلى زيادة عدد المستوطنين فيها بمقدار 50 ألف مستوطن. أما مستوطنتا جفعات زئيف وغوش عتصيون إذا ما ضمّتا إلى المدينة فسيؤدّي ذلك إلى زيادة عدد المستوطنين فيها بمقدار 100 ألف مستوطن، وقد يصل عدد المستوطنين في المدينة إلى 450 ألف مستوطن، وهو عدد يفوق تعداد الفلسطينيين في القدس الشرقية بشكل كبير.

إنّ ما يشجّع سطات الاحتلال على المضيّ قدماً بمخططاتها الاستيطانية، أنّ الإدارة الأميركية الجديدة لا ترى بأنّ بناء المستوطنات أو توسيعها يشكل عائقاً أمام السلام. ولذلك، تستعجل سلطات الاحتلال إجراءات الضمّ ومصادرة آلاف الدونمات من الأراضي ومئات العقارات بشتى الحجج وبإصدار العديد من الأوامر والقرارات وما يزيد عن عشرين قانوناً من أبرزها: قوانين مصادرة أملاك الغائبين، والمحميات الطبيعية، والأرض الخضراء، والمصلحة العامة إلخ… والهدف بالطبع تهجير أهالي القدس بحيث لا يبقى منهم أحد، مقابل رفع عدد اليهود في المدينة ليصل إلى مليون نسمة خلال السنين المقبلة.

كما تسعى سلطات الاحتلال لتوسيع المدينة اليهودية أسفل البلدة القديمة من القدس وفي محيطها، ولربط الحفريات تحت الأرض ببعضها البعض وإقامة منشآت فيها بغرض الترويج للتاريخ المزيّف الذي يريده الاحتلال. هذا وقد هدمت سلطات الاحتلال في الآونة الأخيرة 2200 منزل فلسطيني في القدس الشرقية، وأطلقت يد الجمعيات الاستيطانية للاستيلاء على المباني الفلسطينية، وسحبت بطاقات الهوية والإقامة من المقدسيين وحرمتهم من أبسط الحقوق بذرائع مختلفة، ولاحقتهم بالقتل والاعتقال والإبعاد ومنع السفر. فضلاً عن محاصرتها المقدسيين في مصادر أرزاقهم إلى أن بلغت عدد العائلات المقدسية العاطلة عن العمل والتي ترزح تحت خط الفقر نحو 76 من إجمالي العائلات. كذلك، فيسعى الاحتلال لتهويد جميع المقدسات التي تربط الفلسطينيين بالقدس، فقد أفاد مكتب العلاقات العامة والإعلام التابع لدائرة الأوقاف والمقدسات الدينية بالقدس بأنّ عام 2016 شهد 14806 انتهاكات للمسجد الأقصى، وهو رقم قياسي لم يشهد له التاريخ مثيلاً. كما شهد العام 2016 اعتداءات مكثفة من قبل قوات الاحتلال «الإسرائيلي» على موظفي الأوقاف الذين تعرّضوا للضرب والاعتقال والإبعاد، والتي كان آخرها اعتقال فادي بكير أحد حراس المسجد، والحكم على الحارس فادي عليان بالسجن. وتتمّ الاقتحامات للمسجد الأقصى من باب المغاربة -الذي يسيطر الاحتلال على مفاتيحه منذ عام 1967 – بشكل يومي من الأحد حتى الخميس بواقع ثلاث ساعات ونصف الساعة في الفترة الصباحية، وساعة واحدة بعد الظهر، وبحيث تتمّ الاقتحامات وتحت الحراسة المشدّدة من قوات الاحتلال في مسار شبه دائم، يبدأ من جهة باب المغاربة، وفي جهات المسجد الأربع.

والدولة العبرية هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تمتلك حدوداً معلنة، بحيث تستمرّ في ضمّ الأراضي الفلسطينية دون رادع من أحد، وهي أيضاً الدولة الوحيدة التي تعتبر أنّ كلّ يهودي على وجه المعمورة يجب أن يكون مواطناً فيها، بل لعلها الكيان الوحيد الذي يجعل من الدين والايديولوجية سبباً لطرد شعب من أرضه وإحلال كلّ من يقول بأنه من الدين اليهودي مكانه. أما أولئك الستة ملايين نسمة الذين تشرّدوا من فلسطين في أنحاء المعمورة، فلا توجد أية ضمانة حقيقية تسمح بعودتهم لوطنهم، وإنْ كانت الأمم المتحدة قد تناولت عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم وبلداتهم التي طردوا منها وأن يتمّ تعويضهم على ما خسروه.

إنّ الفلسطينيين يعيشون اليوم تقلصاً مرعباً في مساحة الأرضي الفلسطينية لصالح الاستيطان «الإسرائيلي»، وضياع حلم الدولة الفلسطينية المستقلة وحق العودة. والحقيقة، أننا أمام قضية جلاد وضحية، فالجلاد يتمثل بسلطات الاحتلال العسكرية التي لا تتوانى عن التنكيل بالمدنيين لتحقيق أحلامها في تهويد كامل الأراضي الفلسطينية والقدس والمقدسات وتحويلها دولة يهوديّة السكان والديانة، في مقابل ضحيّة متمثلة بمجتمع مدني فلسطيني ضعيف أنهكته سياسة الإضعاف والحصار والتضييق وغياب الدعم العربي والإسلامي، وانحياز المجتمع الدولي لقوة الجلاد وسطوته.

إنّ الموقف المتشتت والمتقاعس من أغلبية الدول العربية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية شكّل تقصيراً هائلاً في حماية الشعب الفلسطيني المظلوم، وتيهاً في خدمة القدس والمقدسات، وتمسكاً بالارتهان للخارج. ومن ينظر إلى موازين القوى الدولية والمحلية الحالية، سوف يعتقد بأنّ مجريات المعركة تميل لمصلحة كفة الجلاد على حساب كفة الضحية، إلا أنّ ما لا يدركه الكثيرون بأنّ القوة الحقيقية ليست بما يملكه الجلاد من معدات وأسلحة حربية ينكّل بها في المستضعفين، وإنما بقوة الحقّ والإيمان والصبر على بذل التضحيات الجسام في سبيل القضية النبيلة، والتي هي بالأساس قضية حرية إنسان وكرامة شعب أبيّ قبل أن تكون قضية تحرير وطن ودحر محتلّ. قليلون هم الذين يدركون ما هي حقيقة مشاعر هذا الاحتلال، ومدى الضعف والعجز الذي يشعر به، وكمية الدعم المعنوي والمادي التي يجب أن يتلقاها من الدول العظمى كي يتمكن من الثبات في مواقعه، وما السياسة العدائية التي ينتهجها الاحتلال سوى دليل إضافي على مدى خوفه من المستقبل، ومن تغيير موازين القوى على الساحة الدولية، ومن انهيار تماسك لحمة مستوطنيه.

إنّ من يتعمّق في دراسة تركيبة كيان الاحتلال، يعرف تمام المعرفة بأنّ الإرادة الدولية هي التي أهدته جميع انتصاراته، وهي التي موّلته وسلّحته وثبّتت أقدامه، وهي التي آزرته في جميع معاركه العسكرية والديبلوماسية. نحن كفيلون بأن أية أزمة اقتصادية أو أزمة أمنية داخلية قد يتعرّض لها الاحتلال سوف تؤدي إلى فرار نصف سكانه، كما أننا كفيلون بأنّ أدنى تغيير بموازين القوى الدولية أو الإقليمية سيؤدّي إلى إعادة أغلبية الأراضي المحتلة إلى أصحابها، وكفيلون أيضاً بأننا سننتصر عليهم بالمستقبل القريب العاجل، بإذن الله.

وأخيراً، إنّ انتصار المقاومة اللبنانية على سلطات الاحتلال عام 2000 وتحرير الجنوب المحتل أسقط أكذوبة « الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر»، وفضح حجم التآمر على القضية الفلسطينية، فعندما تنتهي مشاريع التسوية المذلة ويستمرّ الاحتلال بتهويد الأراضي والمقدسات وأسر الأطفال والنساء ولا تبادر أيّ من الدول العربية والإسلامية لطرد السفراء «الإسرائيليين» من بلادها ولإنزال الأعلام «الإسرائيلية» من سمائها، ولا توقف التطبيع المباشر أو غير المباشر مع العدو بدون خجل أو حياء من أحد، فلا تستحق تلك الدول لا فلسطين ولا المقدسات ولا حتى الانتماء إلى هوية الأشراف والأحرار.

محام، نائب رئيس

الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى