دول «رفاه» و«ديمقراطيّة» ليس فيها شيء منهما

جورج كعدي

«الديمقراطيّة» التي يتشدّق بها الغرب، بين غرب إمبرياليّ محترف خراب وتآمر وهيمنة وسطو على خيرات الأمم والشعوب، يتقدّمه الأميركيّ، وغرب مستعمر قديم أسود التاريخ والسجلّ، مثل بريطانيا وفرنسا وسواهما إيطاليا وهولندا وإسبانيا ذات تاريخ استعماريّ أيضاً ، يخضع كذلك لأزمة تطبيق وممارسة وإعادة تحديد في زمننا الراهن، إذ تحتاج «الديمقراطيّة» هذه نفسها إلى عملية «دمقرطة» في «الغرب الديمقراطيّ». فمّما لا شكّ فيه أنّ توحّش النظم الرأسماليّة، بلا حدود أو ضوابط، يضرب المجتمع الديمقراطيّ في الصميم ويفكك بناه الاجتماعيّة والاقتصاديّة والقيميّة والأسريّة والأخلاقيّة، إلخ.

ما عساها تكون ديمقراطيّات الغرب وهي تضاعف مثلاً الهوّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة بين المواطنين، فنرى في أيّ مجتمع غربيّ، أميركيّ أو أوروبيّ بخاصّة، إعادة تكوّن جليّة لمجتمع أثرياء فاحشي الثراء من ناحية، ومجتمع فقير إلى حدّ العوز المطلق من ناحية ثانية. كما نرى تفكّكاً أسريّاً فادحاً، وتنامياً في نسبة الجريمة، وازدياداً مطرداً في معدّلات البطالة، فضلاً عن أزمات الفرد النفسيّة والشعور الحادّ بالوحدة وفقدان القيمة والمعنى. فما هذه «الديمقراطيّة» العاجزة كنظام كامل للمجتمع، سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ، عن معالجة التفاوت وخفض نسبة الجريمة ومعدّلات البطالة؟!

لنركّز على بعض هذه النقاط الجوهريّة والحاسمة في نجاح النظام الديمقراطيّ أو فشله، بدءاً بموضوع الأسرة لكونها المؤسّسة الأساسيّة في المجتمع المدنيّ «الديمقراطي». الإحصاءات في المجتمعات الغربيّة المعاصرة معروفة من الجميع، فالطلاق ارتفعت نسبته في معظم البلدان الغربيّة تقريباً، كما ارتفعت نسبة الأسر ذات المعيل الوحيد بلا شريك، ومثلها نسبة الأولاد من آب وأمّ غير متزوّجين. في بريطانيا سجّلت نسبة 35 في المئة من الولادات خارج الإطار الزوجيّ، والنسبة عينها في فرنسا، فيما بلغت 47 في المئة في الدانمارك و50 في المئة في السويد. أقلّية من الأولاد تنشأ في إطار تقليديّ حيث الأب والأمّ متزوّجان ويعيشان في بيت واحد. يدور حديث قويّ في «الغرب الديمقراطيّ» حول انهيار الأسرة التي تعتبر نقطة التقاء لسلسلة توجّهات تؤثّر في المجتمع بكامله. الأسرة الغربيّة في أزمة شديدة والتقاليد العائليّة تنهار.

يرى الباحث الأميركيّ والأستاذ الجامعيّ روبرت ألن دال أنّ رأسماليّة السوق تؤذي الديمقراطيّة، إذ تجلب المكاسب لبعض الناس فيما تجلب الأذيّة لآخرين. والمسألة في رأيه ليست اقتصاديّة فحسب بل أخلاقيّة وسياسيّة أيضاً، فالتأثّر يحصل في الاتجاهين، من السياسة إلى الاقتصاد ومن الاقتصاد إلى السياسة. عدم المساواة، في توزيع الموارد التي تنتجها رأسماليّة السوق على نطاق واسع يتسبّب بعدم مساواة سياسيّة خطيرة بين المواطنين. فالعدد الهائل من جوانب المجتمع البشريّ يمكن تحويله إلى موارد سياسيّة: الثروة، السلع والخدمات، الموارد الإنتاجيّة، المعرفة، الثقافة، الاتصالات ووسائلها، السلاح، التحكّم في العقائد والمعتقدات والانتخابات، إلخ. هذا المورد السياسيّ يمكن أن يتركّز في يدي شخص واحد أو جماعة واحدة.

تزعم الديمقراطيّات الغربيّة أنّها تؤسّس لـ»دولة الرفاه»، فيما هي تؤسّس على أرض الواقع، وبعيداً عن «اليوتوبيا» المتهافتة، لمجتمع اللاعدالة واللامساواة والتفاوت الاجتماعيّ الحادّ الثراء الفاحش والفقر المدقع وما بينهما . ويلاحظ أنّ قضيّة الفقر يتناولها عادة المنظّرون لـ»دولة الرفاه» بكونها الوجه الآخر للثروة! وبالتالي ينبغي في رأي هؤلاء مكافحة الفقر وليس «قوننة» الثراء أو لجم جموحه وتوحّشه. كما أنّ خفض مظاهر التفاوت الاجتماعيّ، ودوماً في نظر الفئة عينها، يتمّ بإعادة توزيع الثروة والدخل من الأكثر ثراء إلى الفقراء عبر منظومات «دولة الرفاه»، علماً أن هذه النظريّة ليست ذات قيمة على مستوى التطبيق، فأبرز معضلات مفهوم «دولة الرفاه» عدم وضوح ما يصفه، لأنّ المقصود به على المستوى النظريّ فحسب هو «الدولة المنظّمة لرفاه المجتمع» بحيث تتدخّل في الاقتصاد لجعل النظام الاجتماعيّ أكثر مساواة. لكن أشهر الفرضيّات، التي أثبتتها التجارب، حول ما تعانيه «دولة الرفاه» هي أنّ «نجاحاتها» أحاديّة الطرف، أي لفاحشي الثراء وأصحاب النفوذ هي نفسها قوّضتها. حين يمسي المناخ الاقتصاديّ متفلّتاً من أيّ ضوابط فإن الذين انتفعوا بأكبر قدر منه يتحرّكون لحماية مكتسباتهم ضدّ الجماعات الأدنى انتفاعاً وامتيازاً ونفوذاً واحتكاراً. الأوسع ثراء ينتفعون أكثر من الفقراء في «دولة الرفاه». هذا مصطلح آخر معاصر يحتاج إلى إعادة تحديد إذ بات يعني، للمفارقة، نقيضه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى