عن الخيانات الكبرى والفساد الأكبر

د. رائد المصري

حولَ عمليات التطبيع والعمالة مع الكيان الصهيوني وحالة الإدمان عليه المتراكمة والمكتسبة جيلاً بعد جيل، بتْنا على قناعة تامّة في لبنان باستحالة الخروج من هذه الدوامة، نظراً لاستمراء البعض وقبوله بتهمة أنْ يكون عميلاً، لكونها تُكسبُه الشهرة وتُشكِّل في زوايا ومناحٍ معيَّنة مع بعض المازات والحواضر اللبنانية، بعض الحواضن والاحتضان ممَّن يندبون حظَّهم السياسي الذي تعثَّر إلى اليوم برهانه الساقط على المشروع الاستعماري «الإسرائيلي»، ومن خلفه الأميركي.

لن نرضى بأنْ يتَّهمونا بمنطق التخوين والعمالة ورميِ التُّهم الجاهزة على الآخرين بعد اليوم، في عملية تكرار ممجوجة لمنظِّري الحرية وحقوق الإنسان وفنِّ الإبداع والابتكار، ولو كان جائزاً ومنجزاً من الزاوية «الإسرائيلية» وملفوفاً بحَمَلَة تعدُّد الجنسيات الأوروبية وليست فقط اللبنانية، بما يُجيز أعمال التطبيع التدريجي مع الصهاينة، وكلُّه في زمن الانتصارات التاريخية التي يحقِّقها المقاومون تحت ضغط أعداد الشهداء والجرحى من أبناء بلادي.

وللتوضيح: لم نشهد منذ وعينا مثلاً حركة تأليب قضائية وسياسية مضلِّلة للرأي العام في لبنان بشأن اغتيال بشير الجميّل كما هي اليوم، في عملية محاكمة قضية جرت خلال الحرب الأهلية، دفاعاً عمَّنْ تعامل مع الاجتياح الصهيوني ورهن بلداً كامل السيادة ومستقلاً وعضواً مؤسّساً في الهيئات الأممية، حيث طُويت صفحة الحرب الأهلية هذه، ودخلنا بعدها في اتفاق الطائف… فكيف يقبل الوطنيون السياديون المقاومون باستكمال هذه المحاكمة من دون وجه حقٍّ ومن دون ردود أفعالٍ مواجهة لهذا الفعل الوقح بحق المقاومين…؟

كما لم تشهد حركات المقاومة اللبنانية والعربية في مواجهة المشروع الصهيوني الأميركي حملات تسعير وتطاول عليها أكثر من هذا الوقت بالذات، في الزمن الذي حقَّقت فيه الإنجازات والانتصارات كلها على الكيان الصهيوني والعدو التكفيري في دول المشرق، ومع ذلك تتصاعد حالات وتتوسَّع بؤر التعامل والتطبيع، بدلاً من أن تنقرض ويتمَّ وأْدُها بشكل كامل كي يشكِّلوا مثالاً ضامناً يُحتذى به للأجيال المقبلة.

في حديث لوزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد نقولا تويني لـ»البناء» والذي يقول فيه: «إنّ من مصلحة لبنان إعادة تركيب وحدة اقتصاديّة بين دول ثلاث لديها وحدة جغرافيّة، وهي لبنان والعراق وسورية، وأنَّ واجبنا لا يقتصر فقط على إعادة تصحيح العلاقات مع سورية، بل مع الأردن والعراق، لكنّ سورية هي الرابط لخطّ الحرير وهي الممرّ إلى الشرق، لأنّ دمشق هي أقدم مدينة مأهولة في العالم، وكانت تغذّي كلَّ الموانئ في لبنان وسورية والمنطقة حتى أنطاكية»… وفي الحقيقة هو كلام مسؤول وله وزن، يجب التوقف عنده كثيراً لما يحمل من معانٍ في الرؤية الاستراتيجية للمنطقة والتي بذل المضحُّون والمقاومون كلَّ الجهود من أجل استكمال هذا الشريط الجغرافي ووصْلِه مع بعضه البعض كوحدة جغرفية متكاملة. وهذا ما أكّده سابقاً الرئيس السوري بشار الأسد في خطابه الأخير، وفي المقابل نستمع لتصريحات رئيس الحكومة سعد الحريري سواء من موسكو أو من الرياض أو من واشنطن عن ضرورة المشاركة في إعمار سورية التي بدأت معالم التسوية فيها بالظهور، ومن دون أن يُقرن كلامه بإعادة تصحيح العلاقة مع هذا البلد الشقيق الذي تكالب عليه الغرب والتكفيريون، وهذا إن دلَّنا على شيء فهو يدلُّنا على المنطق المصلحي الضيِّق الذي يحكم طبيعة وعمل منتجات العولمة وحيتان المال والاقتصاد، من دون إقامة الاعتبار للقضايا الإنسانية الملحَّة بين الشعبين اللبناني والسوري ولروابطهما الاجتماعية ولعيشهما المشترك والمتداخل. وهذا يساوي برأينا ويتكامل مع التسهيلات التطبيعية التي يقيمها البعض من الداخل اللبناني أو من خارجه، سواء عبر المحاكمات أو في إطلاق سراح مرتكبيها من دون حساب.

نحن لا نحبُّ إلاَّ ثقافة الحياة المملوءة بالعزة والكرامة والإباء، ولقد طُويت صفحة الحرب الأهلية اللبنانية إلى غير رجعة، وكذلك الصفحة السورية السوداء بدأت مسارها نحو الأفول، ولا نقبل بالعنف وبطريقته كحلول للتسويات الموضوعة… لكننا لن نقول إلاَّ أنَّه لا بدَّ أنْ يكون لكلِّ عميل حبيب… فهذا هو المنطق التاريخي الطبيعي لصراع الوجود.. ونحن نخوض هذا الصراع بمندرجاته كلِّها…

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى