إلى أيّ حلمٍ أو وهمٍ ستسافرون؟

هنادي رفعت لوباني

تصدّرت صرخات الدعوة للهجرة الجماعية مخيمات اللجوء الفلسطينية في لبنان بدءاً من مخيمات الشمال في نهر البارد والبداوي وحتى الجنوب في عين الحلوة والمية ومية والبرج الشمالي والبص والرشيدية مروراً ببيروت في ضبيه وبرج البراجنة وشاتيلا ومار الياس وانعطافاً إلى البقاع في مخيم الجليل. وشهدت شوارع بعض المخيمات خروج عدد من الشباب الفلسطينيين وهم يحملون يافطات «نعم للهجرة من لبنان». هذه ليست المرة الأولى التي تشهد المخيمات الفلسطينية في لبنان مثل هذا الظاهرة من الحراك الشبابي الذي يدعو المجتمع الدولي وعلى وجه الخصوص الدول الأوروبية إلى تسهيل هجرة الفلسطينيين وخصوصاً الشباب منهم إلى خارج لبنان. فقد اجتاحت هذه الظاهرة المخيمات في أواخر الثمانينات وفي العام 2014، فمثلاً لنذهب إلى مخيم الجليل في البقاع والملقّب بين الفلسطينيين بـ «مخيم الدنمارك» بعد أن هاجر نصف أبنائه تقريباً إلى الدول الاسكندنافية وليبقى في المخيم حالياً حوالى 3 آلاف نسمة من أصل 7 آلاف لاجئ فلسطيني.

الواضح أنّ هذا الحراك الشبابي لا يمتلك بنية تنظيمية موحّدة أو رؤية سياسية واحدة، وإنْ جرت في هذا السياق محاولات للتنسيق تحت اسم «اتحاد تنسيق الشباب الفلسطيني المطالبين بالهجرة» او اسم «شباب النهوض المطالب بالهجرة». كما لا يمتلك هذا الحراك قيادة منظّمة وإنْ سعى البعض إلى تنصيب أنفسهم كناطقين باسم هذا الحراك الشبابي في المخيمات. هذا الحراك ما هو في الواقع إلا ظاهرة احتجاجية تعبّر عن الغضب والنقمة على الأوضاع المعيشية للشباب داخل المخيمات. ولكن من المؤكد أيضأ أنه يحظى بشبه دعم شبابي ويمتاز بتفاعل مواقع التواصل الاجتماعي التي تضجّ بالانتقادات اللاذعة والموجّهة إلى الفصائل الفلسطينيه داخل المخيمات في عجزها عن حلّ مشكلاتهم المعيشية وإلى القيادة الفلسطينية في رام الله.

هذا الحراك الشبابي رافقه نهوض في أعمال شبكات وسماسرة الهجرة غير الشرعية والمهرّبين وتجّار البشر. وخلال الأشهر القليلة المنصرمة ضجّت المخيّمات بحكايات النجاح لمئات من الشباب والعائلات الذين سافروا من مطار بيروت في رحلات هجرة غير شرعية وعلى خطّ تأمين تأشيرات زيارة إلى الاكوادور مروراً بأسبانيا مقابل مبالغ مالية باهظة وصلت إلى حدّ 10 آلاف دولار على الشخص و5 آلاف دولارعلى الطفل. كما رافقته عمليات نصب واحتيال على مواقع التواصل الاجتماعي من عصابات تنتحل صفة مندوبين عن السفارة الكندية وتطالب الراغبين بتعبئة طلبات ورقية وهمية مقابل دفع مبلغ مالي من 4 إلى 200 دولار.

كلّ هذا لفت أنظار الأمن العام اللبناني، كيف لا وهناك من باع بيته في المخيم بأبخس الأثمان مقابل تأمين التأشيرة وتذكرة السفر على متن رحلة هجرة غير شرعية. وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي الداعمة لما سمّي بالحراك الشبابي المطالب بالهجرة بنشر بيان منسوب زوراً للأمن العام اللبناني بأنّ إجراءات منع السفر للاجئين الفلسطينيين في لبنان كانت بطلب من حركة حماس وضمن إطار تصدّيها لظاهرة غريبة وخارجة عن تقاليد الثقافة الوطنية الفلسطينية والصورة النمطية للمخيم الذي طالما تمّ النظر إليه بوصفه حارساً لحقّ العودة. ورغم أنّ حماس بادرت إلى إصدار بيان تكذيب لمثل هذا الطلب إلا أنّ مواقع التواصل الاجتماعي الداعمة للحراك تضاعفت وشنّت حملات ضدّ حماس وباقي الفصائل الفلسطينية متهمة إياها بأنها من «تجار حق العودة». وفي أحد المواقع الاجتماعية تمّ نشر أسماء لقيادات فلسطينية هاجر أولادها وعائلاتها من لبنان مع تعليق «يا تجار حق العودة، أين أولادكم الآن».

مما لا شك فيه أنّ هناك التباسات عده تقف وراء هذه الظاهرة المتجدّدة داخل المخيمات والتجمّعات الفلسطينية في لبنان ولا يستقيم فهم الأسباب والدوافع والتبعيات لهذه الظاهرة من دون أن نضعها في:

أولاً: السياق الوطني العام وأزمة المشروع الوطني الفلسطيني وتحوّله البغيض من مشروع تحرّر وطني قائم على المقاومة وحقّ العودة إلى مشروع تسوية وإقامة سلطة حكم ذاتي.

ثانياً: الظروف المعيشية القاسية التي يعيشها سكان المخيّمات، وبشكل خاص الشباب لما يواجهونه من حرمان وتمييز وتهميش.

ثالثاً: سياسة تقليص الخدمات وتقاعس الأنروا ومعها المجتمع الدولي في توفير الأموال لتقديم الخدمات اللازمة للحدّ الأدنى من العيش الكريم.

رابعاً: عجزالسفارة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية الوطنية والإسلامية عن التعاطي بجرأة ومسؤولية مع مشكلات المجتمع الفلسطيني في لبنان، وخصوصاً القطاع الشبابي، ولقد أظهرت ردود فعل الفصائل على الحراك الشبابي قصور نظر شديد في تلمّس مشكلات الشباب والإحساس بمعاناتهم. إنّ التعامل مع هذا الحراك باستهتار باعتبار أنه مجرد حدث آخر على «الفايسبوك» سينتهي مفعوله سريعاً أو إدانته على أنه ظاهرة غير عفوية وانتقاده في بعض الأحيان إلى درجة التشكيك بوطنية هؤلاء الشباب بل وحتى تخوينهم دون تفهّم أسبابه ودوافعه العميقة ومعالجة المشكلات التي تحفّزه وتغذّيه ليس إلا ضرباً من التنصّل من المسوؤلية، ومن منا لا يذكر مثلاً تضحيات شباب المخيمات على الحدود في مارون الراس.

خامساً: التماهي بين الشعارات العفوية المطالبة بالهجرة الجماعية والمشروع الأميركي- الاسرائيلي الذي عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري وفيه تناول «مشكلة» حق العودة إما من خلال التوطين أو التهجير. من هنا يفترض على الحراك الشبابي التنبّه إلى أنّ التحرّكات والشعارات التي تطالب بالهجرة الجماعية هي سياسياً غير بريئة وتحمل في طياتها مشروعاً مشبوهاً لتصفية حق العودة من أساسه.

… على جدار أحد المخيمات الفلسطينية لوحة رسمها أحدهم وقد لاحت فلسطين في الأفق والمخيمات المكتظة في الأسفل وبينهما السؤال الكبير: ستسافرون ولأيّ حلم؟ ليس لي القدرة على الجواب. ولكن جلّ ما أعرفه أنّ عائلتي هاجرت إلى لبنان قسراً لتدخل في كابوس اللجوء والتشرّد وليتقاذفها صنّاع الحرب والسلام من نكبة الى نكبة متجدّدة ومن لجوء إلى لجوء متجدّد… رغم بؤسه وشقائه… رغم كآبته وقهره… رغم فقره وتعاسته… ما زلت أحلم بالعودة الى فلسطين وخاصة من المخيم في لبنان… هذا الحاضن لذاكرة شعب عنيد… هذا الشاهد والشهيد… الذي ربّى فينا عمق فلسطين وتعلّمت فيه أسماء قراها ومدنها وجبالها وينابيعها وسهولها… هذا الخزان لصفوف من الفدائيين تربّوا على العنفوان والكبرياء ورفض الذلّ فطوّعوا البندقية في ثورة لتصحيح التاريخ… هذا المصنع لأجيال من المعلمين والفنانين والأدباء والصحافيين ورجال الأعمال والمهندسين والأطباء الذي خرجوا ليساهموا وليربّوا أجيالاً عربية على عشق فلسطين… نعم أحلم بالعودة المشرّفة إلى الجذور الأولى في التراب الأول الممتدّ من الوريد إلى الوريد.

باحثة وكاتبة فلسطينية مقيمة في تورنتو – كندا وعضو لجنة تأسيس قناة The Real News

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى