هل كردستان مشروع دولة حقيقية قابلة للاستمرار؟
د. وفيق إبراهيم
تواصل إدارة كردستان العراق رفض كلّ الوساطات الدوليّة والإقليمية التي دعتها إلى إرجاء الاستفتاء لانفصال الإقليم عن العراق، والدخول في مفاوضات مع السلطة المركزيّة في بغداد.
ما يلفت الانتباه ليس هذا الإصرار، بل تزامنه مع هجمات للقوّات الكردية في سورية على مناطق عربية صرفة في محافظة دير الزور وصولاً إلى الحدود العراقية وبمظلّة أميركية كاملة، مع تمسّك إدارة البرزاني بالإمساك بكركوك ومعظم المناطق المختلطة. أمّا الأكثر طرافة، فإعلان الأميركيين أنّهم عجزوا عن إقناع أربيل بإلغاء الاستفتاء. فإذا كانت واشنطن غير قادرة على تليين العناد الكردي، فمَنْ تراه يمتلك هذه المقدرة؟ خصوصاً أنّ السياسة الأميركية هي التي بنت لكردستان هذه الإمكانات الدوليّة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ولولا الحماية الأميركية لما تجرّأ البرزاني على هذه الحركة الانفصالية.
لذلك، يمكن استنتاج وجود تزامن مريب بين تحرّك الكرد في البلدين والانهيار المتسارع للإرهاب الداعشي فيهما، فالسياسة لا تحتوي على كمّ كبير من المصادفات، خصوصاً أنّ المستفيد هم الأميركيون حصراً، الذين يحمون كردستان العراق ويشغّلون كرد سورية بشكلٍ علنيّ، ويستثمرون أيضاً في الإرهاب الذي يزعمون أنّهم يحاربونه منذ أربع سنوات ونيّف!!
وها هو الناطق بِاسم الجيش الروسي يسألهم في تصريح علنيّ حديث عن الطريقة التي وصلوا بها إلى مناطق مقابلة لدير الزور شرق الفرات من دون قتال… فكيف انسحبت «داعش» حبّياً؟
تقود هذه المداخلة للسؤال عن الجدوى الأميركية من تشكيل «كردستانات»؟ والإجابة المنطقية تعلن أنّ واشنطن فقدت معظم أوراقها في «الشرق الأوسط»، وتريد بديلاً وازناً يستطيع التأثير في الدول الرافضة لنفوذها أو صاحبة طموح يضايق هيمنتها. فالدور السعوديّ تراجع، وقطر أصبحت عاجزة عن دعم أنواع الإرهاب، وكذلك دولة الإمارات.. وتركيا مصابة بذعر من القطار الأميركي الذي يسحق حتى الأصدقاء في «الناتو»، وتعرف أنّ المشروع الكرديّ يستهدفها أكثر من غيرها. أمّا مصر، فتائهة بين الإقليم الضاغط عليها بطلباته السياسية والفقر الذي ينال من أكثر من ستين في المئة من أبنائها.
لهذه الأسباب، تصبح الورقة الكردية مِشعلاًً يضيء الليل الأميركي في «الشرق الأوسط»، وقد يؤسس لحلف «إسرائيلي» سعودي كرديّ يجذب البلدان المتردّدة. لكن هناك مَن يشكّك بإمكانية نشوء دولة كرديّة في سورية والعراق لأسباب عدّة، أوّلها أنّها دولة داخلية لا منافذ بحرية لها، وإمكاناتها النفطية لا تزال في مرحلة صراع في دير الزور السوريّة مع الجيش السوريّ على نحو 40 في المئة من نفط سورية، وأيضاً على آبار كركوك التي يمكن أن تضخّ مليون برميل يومياً.
ومع تشديد الحصار الإيراني، التركي، العراقي والسوري حول كردستان، فكيف تتمكّن دولة البرزاني من تأليف تغطية متطلّباتها الاقتصادية؟!
قد تساعدها السعودية والولايات المتحدة الأميركية مدّة مِن الزمن، لكنّها لن تدوم طويلاً بسبب تراجع أسعار النفط والاقتصادات العالمية. إنّ خط عبور النفط الكردي هو باتجاه واحد من ثلاثة: البحر الأبيض المتوسط أو البحر الأسود من الجهة التركية، والخليج أو بحر قزوين من ناحية إيران والبحر المتوسط من القسم السوري. أمّا العراق، فطول ساحله لا يزيد عن خمسين كيلو متر، لذلك فهو دولة شبه داخلية تعتمد على المنافذ السورية واللبنانية منذ أكثر من نصف قرن، واستعانت بمنافذ تركيا منذ أواخر القرن الماضي.
هذا يترجَم باللغة السياسية أنّ كردستان مشروع دولة مستتبعة بشكل دائم لجوارها، وتستطيع أميركا استثمارها لمرحلة محدّدة من الزمن حتى تجد بديلاً منها. مشكلة كردستان إذاً ليست في تأمين حماية عسكرية واقتصادية لها، وهما موجودان عند الأميركي و«الإسرائيلي» ونفط كركوك وبترول محافظة دير الزور ومياه نهرَي الفرات ودجلة، وتتركّز مشكلتها في كونها دولة داخلية يترتب عليها أن تبقى منصاعة لجوارها الإقليمي، لذلك فهي مشروع دولة فاشلة للاعتبارات التالية:
العراق لا يعترف بكردستان دولة مستقلّة، ويناصبها العداء ويستعدّ لمحاربتها.
سورية أيضاً لا تقبل بأيّة استقلالية للكرد، وقد ترضى بفدرالية نسبيّة فقط.
إيران لا تعترف بوجود مشكلة كردية عندها في إطار الجمهورية الإسلامية.
تركيا لن تتورّع عن مهاجمتهم، لأنّها تخشى من تطوّر الانتفاضة الكردية المندلعة عندها، لتصبح ثورة تؤدّي إلى تقسيم تركيا.
فما العمل؟ هناك مَن يعتقد أنّ واشنطن تبذل جهوداً للتعامل مع براغماتية أردوغان، فتسمح له بالقضاء على الانتفاضة الكردية في بلاده، وتعترف له ببعض الامتيازات في المناطق التي يحتلّها جيشه في سورية، كما تبيح له الفتك بـ«جبهة النصرة» في إدلب، مقابل السماح لأنابيب نفط كرديّة تجتاز أراضي تركية نحو البحر المتوسّط، مع توفير مرافئ عدّة لحركة الاقتصاد الكردي في إقليم «هاتاي»، أي الإسكندرون السوريّ المحتل منذ 1939. وبذلك تصبح كردستان قابلة للعيش، وتستفيد تركيا من رعاية الاقتصاد الكردي.
إنّ هذا السيناريو يفترض موافقة تركية لن تتوفّر على الإطلاق، لأنّ تركيا دولة تاريخية عمرها أكثر من ألف عام، وتعرف قيمة الوعود والعهود لدى تغيّر الأنظمة والتحالفات، والتي لا تساوي فلساً إلا في أوانها فقط.
وهل يجهل هذا السيناريو أنّ سورية والعراق لن تقفا مغلولتَيْ اليدين أمام انفصال كرديّ يؤدّي إلى تفتيتهما؟ أي تماماً كما كان دور الإرهاب الإسلاموي التكفيري؟
لكن ما يثير الدهشة في هذا السيناريو، تجاهله للدور الروسيّ الذي يقاتل من أجل سورية موحّدة، إيماناً منه بأنّها الوسيلة الوحيدة لتأمين الاستقرار في «الشرق الأوسط» وهزيمة النفوذ الأميركي، وهذا ما تحقق حتى الآن… فكيف يتخلّى عن انتصاراته؟
لذلك فلن يسكت الروس بتفاهمات، أو من دونها، عن المخاطر التي قد يسبّبها الدور الكردي المستجدّ على الإنجازات التي صنعها بالاشتراك مع الدولة السوريّة وإيران وحزب الله.
وهكذا يتّضح أنّ واشنطن تريد كردستان قاعدة أميركية كبيرة ضرورية للاستمرار في تفتيت المنطقة بديلاً من سايكس بيكو والإرهاب التكفيري، وهي متأكّدة أنّ كردستان ليست إلا مشروعاً غير قابلٍ للعيش أكثر من مرحلة قصيرة تحتاجها واشنطن لبناء حلف سعوديّ «إسرائيلي» كرديّ إماراتي سوداني مع دول أخرى لا تزال متردّدة بما يسمح بالاستنتاج أنّ الحرب الأميركية على الشرق الأوسط العربي مستمرّة، ولم ينتهِ منها إلا الجزء الأول.. بقي أن يتعمّق الحلف الروسي السوري العراقي الإيراني ليشمل دولاً أخرى في معركة القانون لتنظيم التفاعلات الأمميّة والحدّ من التمزيق الأميركي للتفاعلات السياسيّة والإنسانية، والسطو على إمكانات الأمم.