لبنان وفرنسا في بلاد الشام… بمعونة عون!
د. وفيق إبراهيم
الكشف عن هويّة مَن يدفع الآخر للعودة إلى سورية ليس مهمّاً، ما هو ضروريّ التأكيد على أنّ تقارباً فرنسياً لبنانياً بدأ بالتبلور، منذ وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة البلاد، وعكس علاقة تاريخية عميقة بين البلدين كانت على وشك الاختناق من فرط الهيمنة الأميركية على العالم.
لعلّ الإصرار الأميركي السعودي «الإسرائيلي» على إسقاط الرئيس بشار الأسد، أرجأ إعلان هذا التقارب عاماً واحداً. وللإشارة، فإنّ التيار الوطني الحر يتمتّع منذ تأسيسه بعلاقة ممتازة مع القوى السياسية الفرنسية تعود إلى مرحلة نفي العماد ميشال عون إلى فرنسا وتأسيسه تيّاره الوطنيّ.
مؤشّرات هذا التقارب واضحة وغير خافية على أحد، ففرنسا تشعر أنّ لبنان يجنح إليها دائماً، وهناك قسم كبير من اللبنانيين يعتبرها «الأم الحنون» التي أسهمت في ولادة وطنهم في عشرينيات القرن الماضي، تعبيراً عن علاقتها العميقة بالكنيسة المارونيّة، كما الاعتقاد الشائع..
أمّا عن الأسباب المعاصرة للتقارب، فتبدأ بتراخي الكمّاشة الأميركية السعودية في سورية، وتراجع الدور الأميركي في العراق، وكان لا بدّ من إيجاد معادلة داخليّة تعيد للموارنة أهميّتهم في البناء السياسي اللبناني الذي سيطرت عليه «الحريريّة السياسية» منذ 1992، وتقدّمت في السيطرة على المؤسسات السياسية للدولة على حساب الموارنة الذين كانوا المهيمنين تاريخياً.
والفارق الذي يسمح للمارونيّة بالتخطيط لاستعادة ما تسمّيه حقوقها، هو ميشال عون الذي يعتبر الرئيس الماروني الوحيد الذي يحوز على شعبية مسيحية وازنة منذ وصول المرحوم رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة…
بالتوازي، احتلّ ماكرون الشاب رئاسة فرنسا، واضعاً نصب عينيه إعادة بلاده إلى المسرح الدولي من خلال السياسة الأميركية… وإلا فمن دونها.
ولأنّ الأميركيين تعثّروا في «الشرق الأوسط»، حيث يوجد أكبر قدر من كميات الغاز والنفط والحاجة إلى إعادة إعمار دول تهدّم معظم مدنها، كان لا بدّ من البحث عن أبواب أخرى. وللإشارة فإنّ شركات النفط الفرنسية عادت إلى إيران، وتشارك في التنقيب في الآبار الإيرانيّة القطرية المشتركة في المدى البحري الخليجي المشترك بين الدوحة وطهران. هذا من دون تجاهل عشرات الشركات الفرنسية الاقتصادية التي وقّعت عقوداً بمليارات الدولارات مع الجمهورية الإسلامية.
لقد قامت «فرنسا ماكرون» بهذه الخطوات من دون أن تسجّل أيّ تعارضات سياسية فاقعة مع الخطاب الأميركي السعودي الجاري، الذي يعبّر عنه وزير خارجية السعودية عبدالله الجبير بشكل «ببغائي روبوتي». لكنّها لم تتورّع عن إطلاق جمل سياسية جديدة حول أنّ مصير الأسد يقرّره شعبه، وصولاً إلى حدود قبولها ببقائه مدة المرحلة الانتقالية أو إلى ما تقرّره نتائج الانتخابات السوريّة. وواكبها الرئيس ميشال عون، الذي بقي جامداً في مسألة تحديد علاقة رئاسته بسورية، ممارساً نأياً مقبولاً بالنفس، رافضاً انتقاد دور حزب الله في سورية، أو التعرّض بأيّ موقف عدائي للدولة السورية.
وما يكشف عن وجود تنسيق في المواقف بين ماكرون وعون، هو تصريح فرنسي عن بدء المرحلة الثالثة من انهيار الإرهاب في سورية، واقتراب موعد الحلّ السياسي فيها على قاعدة بقاء الأسد.
إنّ كلّ من يظنّ أنّ دولة بحجم فرنسا تبدّل خطابها السياسي بين ليلة وضحاها مخطئ، فباريس عضو في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وجزء من السياسة الأميركية منذ منتصف عهد الرئيس جاك شيراك، ولها علاقة تاريخية معها منذ الحرب العالمية الثانية.
لذلك، لم يتعجّب أحد من خطاب ماكرون، الذي قال فيه أمام الرئيس عون إنّ موضوع السوريّين في لبنان مرتبط بحلّ سياسي. فهذا كلام تقليدي، يقوم على أنّ باريس لا تستطيع منع السوريين من العودة في أيّ وقت يحلو لهم، وهم المنتشرون في مناطق قرب حدود بلادهم. وماكرون يعرف أنّ هناك تحضيرات لإعادة النازحين إلى مناطق خفض التوتر والأنحاء الآمنة من سورية، لذلك لا يعتبر هذا التصريح مؤشّراً على عدم حدوث تغيير في السياسة الفرنسية.
هناك عشرات المؤشرات المنسّق فيها بين الأليزيه وبعبدا، وأوّلها رحلات مدير الأمن العام اللواء إبراهيم إلى سورية لمعالجة موضوع النازحين بتكليف من الرئيس عون، والتنسيق مع الجيش السوري وحزب الله في الحدود الشرقية. لكن أهمّ هذه المؤشرات هو اللقاء الذي جمع بين الوزيرَين جبران باسيل ووليد المعلّم في الأمم المتحدة، وتلته تصريحات للرئيس عون أكّد فيها معلومات فرنسية عن اقتراب موعد حلّ الأزمة السوريّة وحلّ مشكلة النازحين، معتبراً أنّ سلاح حزب الله مرتبط بالخطر «الإسرائيلي» على لبنان…
ضمن هذا الإطار، وجدت السياسة الفرنسية أنّ لبنان هو المدخل الصالح لعودتها إلى بلاد الشام، إنّما على أساس اقتصادي هذه المرة، وليس استعمارياً، كما حدث سابقاً. فلبنان «الرئيس عون» هو بابها إلى المشاركة في إعادة إعمار سورية، وبالتالي العراق، نظراً للعلاقات السياسية الممتازة التي تجمعه بالرئيس الأسد.
وفرنسا الاقتصادية بحاجة إلى هذا الدور الاقتصادي في المشرق العربي، لأنّه يؤدّي تلقائياً إلى ازدهار وانعكاس على المستوى السياسي، ما قد يؤسّس لماكرون زعامة سياسية كبيرة في بلاده والاتحاد الأوروبي وعلى المستوى العالمي. أمّا لجهة لبنان، فيستفيد من المشاركة الاقتصادية مع فرنسا والعراق وإيران، أيّ في بلدان تحتاج لعمليات اقتصادية ضخمة. لذلك سارع المتضرّرون من النهج العوني إلى التهديد بنسف المعادلة السياسية اللبنانية ودفع الحكومة إلى الاستقالة.
وهؤلاء المتضرّرون هم أحزاب المستقبل والكتائب والقوّات، ونوّاب مسيحيون مستقلّون محسوبون كلّهم على السياسات السعودية والأميركية، ويحاولون تفجير الوضع السياسي الداخلي لعرقلة الاندفاعة اللبنانية الفرنسية نحو سورية والعراق، وتعطيل أيّ تحقيق جدّي في تورّط قوى لبنانية سعوديّة وأميركية، في دعم الإرهاب الذي كان منتشراً في جرود عرسال شرق لبنان.
ما يجدر استنتاجه هنا، أنّ هناك عودة فرنسية أكيدة إلى لبنان، لا تستطيع أن تتطوّر إلا على حساب الدور السعودي فيه، باعتبار أنّ التسوية بين الفريقين صعبة حالياً، لأنّ الرئيس عون بنى معادلته على أساس تحالفه مع حزب الله وإمكانية دخول الاقتصاد اللبناني والفرنسي إلى أسواق سورية والعراق وإيران، وأكبر دليل أنّه كشف للمرّة الأولى أنّ السعودية ألغت هبة أسلحة بقيمة 3 مليارات دولار لصالح الجيش اللبناني، فهل يواصل التقارب اللبناني الفرنسي التعبير عن طموحه في سورية والعراق؟
محاولات تعطيله في لبنان مستمرّة، وهناك مناوشات، لكنّها لم تصل إلى حدود التفجير الداخلي، وبمقدار التقدّم على الإرهاب واحتواء اللغم الكردي، يجوز الاعتقاد أنّ فرنسا متوجّهة للانتماء إلى الدول الإقليمية التي توفّر غطاءً لاستقرار لبنان على قاعدة توسّع دورها في المشرق العربي، وتعاملاتها غير العدائيّة مع الدولتين في سورية والعراق.