عون بلا «نفط» أو «مال» يُستقبل كالملوك في فرنسا..
روزانا رمّال
استقبلت فرنسا الرئيس اللبناني العماد ميشال عون الذي اختتم أعمال زيارة تاريخية لها استقبال «الملوك». هو الرئيس الذي لا يمتلك «النفط» ولا يحمل «المال» لفرنسا ولا صفقات تجارية «مرقومة»، الرئيس القادم من المنطقة الأكثر توتراً في العالم والبلد الذي يضمّ أغلب التناقضات والأعلى مديونية في مرحلة استثنائية من تاريخه، البلد الصغير الذي يشكل بالنسبة لبعض الدول محطّ رعاية وحماية مستمرين وهاجساً يشكله في أي لحظة اعتداء تقرر «اسرائيل» الشروع به وهزّ الاستقرار فيه. هو الرئيس الأعزل الذي ذهب بصحبة وفد لبناني رسمي ومجموعة وافية من الأحبة للقاء «الاحبة»، أولئك الذين ناضلوا مع عون في أصعب ايام حياته. ذهب إلى فرنسا ويعود منها مكرّماً كمناضل عاش على الارض الفرنسية وانطلق منها وصار رئيساً في بلاده.
الرئيس اللبناني الذي لا يحمل من ذلك شيئاً بدا وأنه «رمز» وازن بالنسبة للفرنسيين. فهو يحمل روح المسيحية المشرقية في الرئاسة اللبنانية ككرسي عربي مسيحي وحيد، لكن الأهم ما يمثله من جدلية «الرئيس القوي». المقصود هنا الرئيس المسيحي «القوي». وهو الأمر الذي يختلف بعض اللبنانيين في فهمه وتفسيره، لكن فرنسا وبكبار مسؤوليها وساستها تدركه جيداً، لقد حاولت المرشحة الرئاسية مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف كسب ثقة الرئيس عون في معرض زيارتها له في لبنان الأشهر الماضية إبان الحملة الانتخابية على مقربة من الاستحقاق الرئاسي الفرنسي، لمعرفتها بتأثير ذلك على قاعدتها المسيحية الفرنسية التي تجنح نحو التمسك أو التشدد، ومع أن عون قرر عدم الانحياز في ذلك الوقت، إلا ان محاولة لوبان كانت واضحة للاستفادة من مكانة عون المشرقية في أجواء التطرف الذي يعيشه العالم الذي يتهم فيه الإسلام المتطرف في فرنسا وأوروبا.
كشفت الزيارة للبنانيين ما يعرفه الفرنسيون عن رئيسهم أكثر منهم. وهو أبرز ما لفت في هذه الزيارة. الفرنسيون يعرفون قيمة هذا الرجل المشرقي جيداً ويبدو أن له صداقات عميقة وكبيرة في بلادهم من الساسة والمسؤولين. أكثر من ذلك، يبدو عون «مرجعية» لهؤلاء، أو رمزية واضحة الأثر في نفوسهم. فقد تداعوا إلى اللقاء بعون وإلقاء مواقف بحضوره، الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حرص على أن يظهر حفاوة كاملة في استقباله للضيف اللبناني، زيّنت جادة الشانزيليزيه بعلم لبنان برفقة العلم الفرنسي. كل الباريسيين تابعوا الزيارة باهتمام على وسائل الإعلام ونشرات الأخبار، إنها زيارة دولة. فعون هو أول ضيوف رئيسهم ماكرون، وربما أول «اختبار» له بكل ما تحمله من معنى. كيف بالحال إذا كان الزائر الرئيس ميشال عون الذي يختلف مع الرئيس الفرنسي بمواقفه المباشرة من قضايا متعدّدة خاضعة بالنسبة للفرنسيين للتجاذب، حسب التحالف مع واشنطن في أكثر الأحيان؟
الاكيد ان ماكرون لن ينسى هذه الزيارة، لأنها «الاولى». وقد تبين أن عون هو أحد العالقين في فكر ماكرون والذين يحملهم في ذاكرته. فالأخير لم يوفر مناسبة إلا ويذكر بأنه فخور بأنه كان قد سبق والتقى عون عندما كان وزيراً في زيارته إلى لبنان عام 2013..
ليس ماكرون وحده من بين ساسة فرنسا الذين يفتخرون بلقاء الرئيس اللبناني. فزيارة الدولة هذه حطّت في مقرّ مجلس الشيوخ في قصر لوكسمبورغ، حيث كان في استقبال الرئيس اللبناني رئيس المجلس جيرار لارشيه، الذي صافحه عند المدخل الرئيسي محاطاً بالقائد العسكري لقصر لوكسبمورغ الجنرال جان بيار مولينييه. أعرب الرئيس لارشيه عن سعادته للترحيب بالرئيس عون والوفد المرافق مستذكراً علاقة جمعته معه منذ العام 1986، لارشيه قال إنه زار بيروت 35 مرة، إلا أنه شعر اليوم بسعادة حقيقية لاستقبال الرئيس اللبناني»، الذي أعاد الحياة الى المؤسسات الدستورية اللبنانية بعد غياب شعرنا جميعاً بمرارته.
رئيسة بلدية فرنسا تقول أمام الرئيس ميشال عون ما لا يمكن أن يُقال من فرنسي، الا لما يحمله هذا من مآثر ووجدان في قلبه، فهي قالت «إن فرنسا ما كانت لتكون على ما هي عليه اليوم لولا لبنان!».
كل هذا الكلام عن عون وجزء أكبر من تفاصيل الزيارة وجدول أعمالها يحتمل الكثير من الاستنتاجات ضمن الخانة نفسها، لكن الأساس «واحد» وهو أن عون استطاع أخذ المشهد إلى غير المتوقع. فهذه الحفاوة التي لاحظها اللبنانيون، خصوصاً خصومه السياسيين والذين أرادوا بجزء وافر من وسائل إعلامهم التصويب على اختلاف وجهة نظره مع ماكرون بخصوص سورية للتقليص من وهجها، لم يوفَّقوا إلى ذلك.
عون الذي تصدر الخبر الأول في فرنسا من دون أن يعد الفرنسيين بصفقات نفط أو غاز أو صفقات سلاح، كان يملك «حزمة» واحدة فيها «الثقة بلبنان» و «موقف» سياسي واضح و «تاريخ» وحاضر غير ملتبسين. ربما امتلك عون ما يُسمّى «الكرامة الوطنية» التي تجيد فرنسا العريقة قراءتها.
يقول أحد العونيين الذين عاشوا مع عون في فرنسا في لحظات المنفى الصعبة أمس لـ «البناء « بعد لقاء عون بالجالية اللبنانية «أنا الآن أبكي من كل قلبي، لا يمكن أن أنسى تلك الأيام التي عشناها معاً. هذا مؤثر جداً الرئيس عون اليوم في فرنسا، لكن هذه المرة رئيس… لقد انتصر لبنان.. كل لبنان».