قصيدة «ملاك أم بشر» للشاعر بشار الجهني… قراءة في خارطة الجسد وأعماق الروح
محمد رستم
هي حسناء، آية في الجمال، أنثى غاية في الروعة، تبدّت أمام ناظريه فألهمته البيان الساحر وبدت تتهادى بين أنغامه بِدلّها ودلالها فيقف مدهوشاً أمام روعة حُسنها وسحر عينيها النجلاوين ويطلق صرخة بصيغة النداء: «يا آيةً»، يعقبه بتساؤل العارف، أملاك أم بشر، إذ تبدو طيفاً من السحر ترفل بالجمال تنقل خطوها بكل كبرياء وترفّع وافتتان في بيانه، هي تطل عليه من عليائها ملاكاً، بينما يجثو متعبّداً في صومعة عشقها مبهوراً بملكوت بهائها.
ومنذ النغمة الأولى لقصيدته، يحيل الشاعر الحُسنَ كمّاً مقاساً فيرى عينيها وحورهما أكثر جمالاً من الحُسن ذاته وبلغة تقريرية يثبت أنها، آية… وبتساؤل العارف الذي خرج إلى أقصى عتبات التعجب يقول: أنت من عالم الملائكة أم البشر؟
يبدأ المتألق بشار الجهني قصيدته بتقرير الواثق الذي يقف على أرض صلبة وكأن كلامه لا يأتيه الباطل من أي النواحي فيقول: أبهى من الحسن وبهذه التقريرية والمباشرة جاءت المقصدية واضحة محددة مع صدى التنوين في، يا آيةً.. ومع أن المعشوقة معروفة لديه فقد ناداها بالصيغة المنكرة وغير المقصودة ليدخل إلى بيانه حركة فنية لافتة.
ولكي يتذوّق الشاعر روعة الحبيب تراه يحشد حواسه ويستنفرها مجتمعة إذ يخشى أن تفوته ومضة من روعة حسنها أو نسمة عطر من أريجها وبلفتة ذكية يجعل عينيها النجلاوين تحتويان الكون بجمالهما، ونور وجهها يفوق الشمس ضياء فإذا بدت لم يعد للشمس وضوئها من وجود وعبق عطرها يدوم على مرّ الأيام إذا خطرت بناحية قريبة وقد فاق حسنها الشمس والقمر جمالاً ويقول: «لذا فقد عذرت من فتن بها وقلبي يكاد ينفطر شوقاً لها. فهو دائم الأنين من شدة الوجد ويرجوها أن تمنحه شذرة من حبّها»، ويقول: «يا من تتمناك الروح، جودي علينا ببعض حبك الذي يروي عطشنا. فأنت لروحي الخصب والمطر الذي ينعشها وأنت برعم الخير في شعري إذ لا قيمة لبوحي إن لم يثمل بعشقك.
إن جمالك يجذبني نحوه كما ينجذب الفراش إلى النور وينتحر فيه وما الحب إلا أغنية الروح وما العشق إلا ملحمة قدّرها الله علينا».
منذ البدء نلحظ أن أفراس الوله تحمحم في شرايينه وخيول الحب تصهل في جوارحه، ولشدة حمأة النيران فقد ذابت، الأنا، للشاعر في مقابل، الهو.. ويبدو الذوبان انسحاقياً غايته إبراز بهاء الجمال للمعشوقة/فهي منية الروح/وهو يعذر المفتونين بجمالها/وكبده يئن، وقلبه ينفطر، وهي برد وسلام لروحه، وهو الظمآن وهي مطر السقيا، وهو فراش ينتحر في لهب عشقها. وهو بذلك يماهي بين المتعة الجسدية والسعادة الروحية فتراه يحلق على أجنحة الأثير ليستمتع بحسنها، فبدا متعبّداً يرتل أناغيم الجمال في صومعة العشق، يصوغ من تضاريس جسدها ألحانه لنتوه في سحر الجمال وجمال السحر.
وينأى عن الروح ليقع على المحسوس، على الجسد وليس له إلاحواسه وحواسها تنقذ جذوة العشق الملتهب.
ويبدأ بحاسة روحانية ساحتها الفكر والروح وتذوق الاحساس بالجمال حيث تترك سعادة نفسية فهي أبهى من الحسن ذاته وهي آية في الجمال وهذا الحسن جعل الشاعر يضيّع خارطة الاتجاهات ويقع في حيرة من أمره. أهو جمال ملائكي أم بشري، ويعود ليشرك حواسه كلها يصبو لأن يتذوق بهاءها بكل ألوان الطيف بالنظر إذ يرى عينيها ولا أحلى وبعينه يرى نورها يطغى على ضوء الشمس وبأنفه يشتم عطرها وبأذنه يسمع أنين كبده وبحاسة لمسه يحسها برداً يطفئ غائلة الحريق والعطش في أحشائه وبفكره يراها خيراً مطلقاً.
إنه يرسم على خارطة الجسد أوتار أنغامه.
وإذا كانت مخيلة، الأنا، في لحظة التوق ترسم صورة الحبيبة، الهو، بألوان قوس قزح وتأتي الصورة مثالية فيفترض والحالة هذه أن تسمو فوق المحسوسات وتحلق في فضاء الروحانيات الشفافة، إلا أن خافق شاعرنا قد تأبط عشقاً فاكتوى بجمره وأخذت عيناه تتقرى جسد المحبوبة «من دون تجاوز للخطوط الحمراء المرسومة أخلاقياً»… فأتى وصفه لها في سياق الصورة المادية الجسدية، ولم يأت على ذكر للجوانب النفسية، كطهرها، وكرم نفسها، وعفة طويتها الخ.
إلا إذا اعتبرنا الدوال «الخير… البرد…» خرجت من معناها المعجمي إلى معنى رمزي ويمكن بذلك أن تحمل معاني أخلاقية جمة.
وفي محاولة المزج بين حالة التجلي ودوامة الرغبات وتوق الجسد استحدث اندماج الملائكي بالحسي في حالة من توه الفكر «أملاك أنت أم بشر؟».
في عالم العشق يتبخر المنطق وينهار قوس العدالة وليس من حضور إلا لرغبات قلب محموم قانونه التملك وغايته أسر الحبيب والتفرد به والتمتع بكينونته بكل ما في الروح من شهوات مفتوحة على مصراعيها..
الأبيات تضج بنغمة العشق الطاغي والإعجاب وتقديس شريعة الحب، هو خطاب شعري قائم على ثنائية الحضور «للأنا» المهيمنة على النص الأنا الناطقة بالوجد والصبابة مقابل صورة المعشوقة «الهو» التي تتبدى غائبة حاضرة في آن، إنها بحضورها وغيابها تشكل حالة إشكالية جدلية. هو بحضوره الطاغي وجودياً غائب وذائب كطاقة فاعلة إذ تحول إلى كتلة منفعلة منصهرة حد الغياب أمام حضورها الفاعل في ذاته.
وهي بالتأكيد ليست أنثى حقيقية إنها مجرد صورة من عالم الخيال والعشق هنا ولادة فرضتها ضرورة النص ويشي بها الغرض ومع ذلك فهي بسحرها تعاند المستحيل ويتسع قلبه فيتجاوز دائرة العشق ويقفز فوق جدران الأنا الضيقة لينظر بعين القاضي العادل فيعذر من وقع مفتوناً بجمالها: «إذ كيف لا يقع من يراها صريع جمالها وقد فاق حسنها روعة الشمس والقمر».
لكن شاعرنا هنا خالف ما جرى عليه الشعراء، فالحبيبة كالروح لا تقبل القسمة إلا على واحد.. وكم أعلن الشعراء عن غيرتهم من النسيم إذا مر قريباً من الحبيبة وهذا أبو تمام يغرق في غيرته على حبيبته فيغار عليها من نفسه.. يقول:
بنفسي من أغار عليه مني وتحسد مقلتي نظري إليه
ولو أني قدرت طمست عنه عيون الناس من حذري عليه
ونراه في آخر القصيدة يرفع بطاقة إنذار
لبطاقة الحمراء فالعشق قضاء وقدر من الله ولا مناص للتهرب منه.
ولعله في فرض جبري لقانون العشق يريد أن يؤكد أنه لو ساد الحب لغدت الحياة حديقة غناء لا وجود لأنسام أو أصوات نشاز فيها ولعم الخير أرجاء المعمورة.
ونلحظ تأثر الشاعر بمخزونه الثقافي. فجاءت صورته/فالشمس رغم ضياها ما لها أثر/ متاثرة بقول النابغة/فإنك شمس والملوك كواكب. إذا طلعت لم يبد منهن كوكب.
وننوه بأن الشاعر استخدم صيغة الجمع /نحن العطاش/للتفخيم وليس للدلالة على الجمع وقد تحول الشاعر من الحديث عن جمال المحبوبة للقول بأنها خير مؤكداً أن الخير هو أولاً وأخيراً حالة جمالية ولأنها الأنثى ربة الحُسن والجمال فإن وهج حسنها يوقظ الألحان في أعماقه فتصدح بأنغام البحر البسيط وروي الراء المضمومة التي تطلق صدى موسيقياً يتردد في النفس مع الإكثار من حرف المد / الألف/ في ثنايا القصيدة/ ملاك. عيناك سماء، لها، الدنيا ضياها الخ ما يحقق انسيابية صوتية تتناسب مع ارتحال الخيال في عوالم الحبيبة.
ومن الواضح رصانة اللغة وسعة القاموس الشعري لشاعرنا هذا وقد عمد الشاعر الى التشبيهات البليغة/يا آية .املاك أنت. يا برعم الخير… إلخ.
أخيراً ليس لنا إلا أن نقول أن الشاعر أمتعنا بهذا الخطاب الغزلي النظيف، لشاعرنا الرائع كل التحية.
من القصيدة
أبهى من الحسن هذا الطرف والحور
يا آيةً أملاك أنت أم بشر؟
عيناك أفق سماء لا حدود لها
وينطوي كوننا فيها ويختصر
إذا أطلت على الدنيا بطلعتها
فالشمس رغم ضياها ما لها أثر
وإن بيوم لنا مرت بناحية
فالعطر يبقى على الأيام ينتشر
عذرت من راح مفتوناً بروعتها
لا الشمس في حسنها جاءت ولا القمر
يا منية الروح جودي فوقنا برداً
نحن العطاش وأنت الخصب والمطر
يا برعم الخير في أغصان قافيتي
ما قيمة الغصن إن لم يحنه الثمر؟
أنا الفراش وأنت الضوء يجذبني
يا للفراش بنور العشق ينتحر
فالحب أغنية للروح قد عزفت
والعشق ملحمة قد خطّها القدر!
كاتب سوري