ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.
إعداد: لبيب ناصيف
الرفيق تاج الدين مرتضى… عرف المسؤوليات الحزبية في دمشق والقامشلي
والكاميرون وفي مركز الحزب في بيروت
عندما قرأت في أكثر من مكان في مذكرات الأمين مسعد حجل، عن صديقه ورفيقه تاج الدين مرتضى، استعدت في ذاكرتي العلاقة القوية التي كانت تربطني به واستمرّت سنوات عديدة حتى رحيله، وما زلت اتذكره بحنين وبلوعة على فراقه.
عنه كنت كتبت ضمن نشرة عبر الحدود بتاريخ 26-10-2007 وتحت عنوان «نتذكر باعتزاز» التالي:
«عرفته منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي عندما كان يتولى مسؤولية ناموس مديرية الكاميرون، معاوناً لصديقه ورفيقه الأمين مسعد حجل الذي كان يشعّ بحضوره في الكاميرون، مديراً وحضوراً قومياً اجتماعياً في الجالية، كما على صعيد الدولة الكاميرونية.
وعرفته أكثر عندما عاد نهائياً إلى الوطن وتولى مسؤولية وكيل عميد المالية، فكنت التقيه دائماً، فأفرح به رفيقاً مميزاً بإخلاصه وتفانيه ودقته في العمل.
وانتقل إلى دمشق، إلا اني لم انقطع عنه، فكنت اسأل عنه وألتقيه كلما زرت دمشق، وكان بدوره يسأل عني فنلتقي عندما يزور بيروت.
تدهورت صحته ولزم بيته، إلى أن فارق الحياة، حيّاً بإيمانه، ليبقى حياً في ذاكرتنا ووجداننا، ومقيماً في تاريخ الحزب.
الرفيق تاج الدين مرتضى يستحق منا أن نكتب عنه، وأكثر من يتمكن، حضرة الأمين مسعد حجل الذي عرف الرفيق تاج في الجزيرة عندما أسس الأمين مسعد مشاريع زراعية، ثم في الكاميرون، ففي الوطن، ويعرف خصاله ومزاياه وعميق إيمانه، كما رفقاؤه في دمشق الذين رافقوا نضاله والتزامه وخبروا جيداً صدقه وإخلاصه».
من رسالة له إليّ في 26/01/1971:
«إن اعتذارك المشفوع مع التحية لعدم تمكنك من وداعي يوم السفر، فهو مردود مع الشكر، حيث أن الوقت الذي تنجز فيه أعمالك الحزبية لا يجوز التفريط به للقيام ببعض التقاليد الاجتماعية.
إن تعاوننا الوثيق المخلص على صعيد المسؤوليات المركزية رسّخ علاقتنا الشخصية عبر ولائنا القومي الاجتماعي الذي هو أولاً وأخيراً أساس كل تعارف وكل تعامل».
منذ مدة، وفيما كنت أراجع أعداداً لدي من مجلة البناء عام 1992 قرأت في العدد الخاص الصادر في ذكرى الثامن من تموز بتاريخ 11/7/1992، المقالة التالية للرفيق تاج الدين مرتضى، ننقلها لما فيها من معان، ومعلومات:
الثامن من تموز عطاء لا ينضب
«في حياة الأمم تواريخ تبعث على الاعتزاز والافتخار. وترقى إلى ذرى المجد والعز والإكبار هذا هو شأن الثامن من تموز، وليد وقفة العز التي هي الحياة بكاملها ولا حياة من دونها.
قصة هذا التاريخ ابتدأت في الثاني من آذار 1947، حيث عاد الزعيم إلى أرض الوطن يغمر قلبه الكبير إيمان مطلق بجوهر امته، وأصالتها، وقدرتها على انتزاع حقها في الحياة والوجود إلى جانب الأمم القوية، وأمام تلك الجموع الحاشدة التي جاءت من مختلف بقاع الوطن والتي ألهبت قلوبها لوافح الحب والشغف بعودة الزعيم، تصادف وصول وفد حكومي جاء لاستقبال السيد فوزي قاوقجي الذي كان على متن طائرة الزعيم، ولما شاهد الوفد ضخامة الحشود التي امّت المطار لاستقبال سعاده، اختصر مدة وجوده فيه وعاد أدراجه إلى بيروت.
ظهر الزعيم وهو في اجلى مظاهر السرور والحبور والاعتزاز بالنفس ومضاء العزيمة.
لقد هال الحكومة اللبنانية أن تصل قوة الحزب إلى المستوى الذي ظهرت فيه خلال موكب الاستقبال، كما هالها أكثر تلك اللهجة العنيفة التي جابه بها سعاده مساوئ الحكم وفساد النظام، فحزمت أمرها على مقاومة نمو الحزب وانتشاره قبل أن يشكّل خطراً داهماً عليها، فطالبته كخطوة أولى بالحضور إلى مديرية الامن العام لاستجوابه.
ومن البديهي أن عودة سعاده إلى الوطن جاءت تحقيقاً لرغبته في درس أوضاع البلاد عن كثب وليعلن رأيه عالياً وجريئاً، عاد ليكتب المقالات والمنشورات الحزبية وليتكلم وليخطب كلما تدعو الضرورات الحزبية لذلك دون خوف أو وجل.
الزعيم وأركان حزبه كانوا يعقدون الاجتماعات المتوالية لدراسة ما تعانيه البلاد من الطغمة الحاكمة التي ما كان يهمها من الحكم سوى المنافع الخاصة لها ولأنصارها، وما يجب على الحزب عمله في سبيل انتشال الشعب من مستنقع الحكم، فتقرر القيام بعمل حاسم وكان قراراً سرياً».
«بعد حادث الجميّزة المعروف في حزيران غادر الزعيم لبنان سراً إلى دمشق مع عدد من أركان حزبه ومن حرسه الخاص، واستقر بهم المقام في مكان ما من دمشق وبقي أمر تواجدهم فيه سراً حيث تابعوا دراساتهم حول تفاصيل العمل الذي تقرر القيام به، وبعد الانتهاء إلى قرار نهائي بشأنه، قام الزعيم بزيارة وديّة إلى الرئيس الشامي المشير حسني الزعيم الذي بدوره قام برد الزيارة في الدار التي يقيم فيها سعاده.
كثرت الاتصالات والزيارات بين سعاده والمشير خلال مدة من الزمن، وفي وقت كانت فيه العلاقات بين لبنان والشام متوترة، وتمّ الاتفاق بينهما على أن يقوم الجانب الشامي بمساعدة الحزب على القيام بعمل مسلح في لبنان وقام المشير أيضاً بإهداء سعاده مسدسه الخاص عربوناً على الصداقة والوفاء.
الاتفاق الذي تمّ بينهما يقضي بان يقدم الجانب الشامي مساعدة عسكرية إلى الحزب تحددت نوعياتها وكمياتها بشكل واضح ومن ضمنه أيضاً أن تقوم سيارات الشرطة العسكرية بنقل الأسلحة التي يملكها الحزب والتي يجمعها القوميون الاجتماعيون من سائر المناطق الشامية إلى نقطة انطلاق العمل المسلح على الحدود اللبنانية، وان تنقل أيضاً عناصر الحزب الذين أوكل إليهم أمر القيام بالمهمة المسلحة بقيادة الضابط عسّاف كرم، وهناك مهمة أساسية أخرى تعهد الرئيس الشامي بها، هي ان تقوم عناصر من الجيش الشامي بألبسة مدنية بنسف الجسر الذي يربط البقاع مع بيروت.
كان الزعيم أكمل وضع خطته لانبثاق الثورة ضمن مناطق لبنانية تتزامن مع دخول المفارز القومية المسلحة إلى البقاع.
كانت دراسة الزعيم لمخطط العمل في البقاع دراسة دقيقة وشاملة للميول الحزبية السلبية والإيجابية لكل قرية على حدة، ساعد عليها الأمين عبد الله محسن لخبرته الواسعة بكافة الميول السائدة في هذه المناطق بالإضافة إلى عدد من المسؤولين.
«قلق أركان النظام لانباء الحزب بالغ القلق، فنشطت في هذا السبيل حتى اوفت على غايتها واستطاعت اقناع النظام الشامي بمساعدة عدد من الدول العربية والاجنبية من أن حركة سعاده اذا كتب لها النجاح في لبنان سوف يأتي بعدها دور دمشق وينقلب عليها. هنا وامام هذه الوشاية الخبيثة أخذ المشير بضرب أسداسه في أخماسه فكانت نتيجة هذه العملية الحسابية أن قرر التراجع عن تعهداته مع سعاده لا سيما وأن الامور بينه وبين لبنان عادت إلى سابق عهدها بفضل رئيس وزرائه محسن البرازي.
وعن هذه الناحية بالذات لا بد من التنويه مع التأكيد بأن الحزب ما كان أبداً لينقلب على النظام الشامي في حالة نجاحه في لبنان لأنه ليس من شيمة سعاده أن يغدر بصديق تعاقد معه تعاقد الانداد الشرفاء، بل كان يترك أمر النظام الشامي إلى شعبه نفسه، فإذا جاء وقت وكانت فيه الاكثرية في صالح الزعيم سيكون حينئذ حكام دمشق أمام امر واقع لا خيار لهم فيه.
طبعاً كتم الرئيس الشامي بشكل حازم عن الزعيم هذه المعطيات المستجدة لديه بينه وبين لبنان، ولكن هيهات أن تخفى هذه اللعبة القذرة على نباهة سعاده وذكائه الحاد مهما كان المشير حاذقاً وماهراً يلعب الأدوار المزدوجة لان من يدخل في دائرة الإجرام الخلقي، وقد دخلها فعلاً الرئيس الشامي لا بد أن تلوح منها بعض ملامحها ولو بشكل خفيّ».
«أما الرفيق الشهيد عساف كرم الذي لا يعلم شيئاً عما استجد لدى الزعيم وعما يجول في خاطره. اخذ يتابع اتخاذ الإجراءات المنوطة به استعداداً لساعة الصفر، والشرطة العسكرية أتمت فقط نقل تجهيزات الحزب وعناصره إلى الحدود مع لبنان، غير ان الشهيد كرم الذي كان يعتمد في خطته العسكرية على عامل المفاجأة، كان ما إن دخل المنطقة اللبنانية بهدف التوغل فيها مباشرة مع عناصره حتى وجد نفسه وجهاً لوجه امام الجيش اللبناني بكامل تجهيزاته وذلك بسبب نكوص الجانب الشامي عن تعهده وخاصة عدم قيامه بنسف الجسر الذي يعرقل مرور الجيش إلى منطقة القوميين الاجتماعيين المسلحين، فسرعان ما قرر وبدون تردد خوض المعركة الغير متوازنة واستمر في قتاله حتى استشهد، وتمّ أسر عدد من رفقائه الذين حكم عليهم بالسجن لاحقاً لمدد متفاوتة وذلك بعد محكمة صورية وهكذا توقفت كافة العمليات العسكرية في سائر المناطق الحزبية وسُلّم الزعيم غدراً إلى حكومة لبنان.
بعد اتمام مراسيم المحكمة الصورية في بيروت مدة سبع عشر ساعة نقل الزعيم بعدها إلى ساحة النصر والاستشهاد حيث تمّ اغتياله باسم القانون.
«لقد كان بوسع سعاده عوضاً عن الذهاب إلى القصر الجمهوري وملاقاة مصيره أن ينتقل بكل هدوء وطمأنينة إلى الاردن ومنها إلى الخارج كما فعل سابقاً أيام مطاردته من قبل الاستعمار الفرنسي حيث ذهب إلى المغترب الذي عاد منه عام 1947، ولو فعل ذلك لما كان هو نفسه انطون سعاده، ومن ناحية أخرى كان يؤمن بأن إجراءه هذا سيكون مفتاح اندلاع الصراع القومي الاجتماعي وتأججه ضد رؤوس انظمة الوطن الفاسد، وخير شاهد على ذلك هو إعدام حسني الزعيم ورياض الصلح على أيدي ابناء سعاده.
وهكذا سنّ الزعيم في العقيدة مبدأَ جديداً لأبناء الحياة، حرره بدمه القاني وهو أن «الحياة كلها وقفة عز فقط». وهكذا أيضاً انبثق تاريخ الثامن من تموز منارة مشعّة أمام الصراع القومي الاجتماعي الذي يسير بنا لا محالة نحو النصر الذي لن تغرب شمسه».
روى لي الأمين أنيس مديوايه القامشلي ان الرفيق تاج الدين كان يشغل منصب رئيس قسم المحاسبة في «مكتب الحبوب» في محافظة الحسكة، ومركزه القامشلي.
أضاف: إن أديب الشيشكلي وكان «أسّس حزباً له» أمرَ جميع الموظفين في الدولة التي يرأسها ان ينضموا إلى حزبه الجديد.
موقف الرفيق تاج كان حازماً. رفض الانضمان إلى الحزب، وتقدم باستقالته من وظيفته المغرية. قال: انا سوري قومي اجتماعي، ولن اترك حزبي.