موسيقى الشوارع في «الحمرا»… بين التشجيع والازدراء
اعتدال صادق شومان
لا ينفكّ شارع الحمرا يشدّ الناس إليه ويسترعي انتباههم، ويستوقفهم مثيراً فضولهم والجدل من حين إلى حين.
تاريخياً، هو شارع «نخبويّ» كما اتُّفق على تسميته، لا سيما في الحقبة الذهبية للشارع في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، كونه شارعاً مستقطباً روّاد الثقافة والفنّ. ومكمن أهميته قد تعود إلى انتشار مقاهي الأرصفة على جوانبه التي أكسبته خاصيّة تضجّ بالحياة لا يشعر المرء بها إلا فيه. رغم انتشار هذه المرافق الثقافية في عدد من المناطق اللبنانية، إلا انها لم تتمكّن من سلب هذا الشارع فرادته. المجتهد بالتمسّك بدوره، ومساحة مقاومته الذاتية. رغم ما طرأ عليه من تغيّرات وتحوّلات طوّعتها أحوال فرضتها آليّة العصر وتقلّبات اجتماعية وعوامل شتّى، تلاشت بفعلها بعض ملامح الشارع من غير أن يفقد جاذبيته وسحره الخاص، أو تنال من شهرته ذائعة الصيت.
يشهد هذا الشارع مؤخّراً، ما يُعرف بـ«موسيقى الشارع»، بعد غياب قسريّ بفعل «ظرف زمانيّ» أبعدها لفترة، ليسترجع شارع الحمرا إيقاعاته الموسيقية على أدراج الأرصفة، اتّخذها بعض الشباب مسرحاً مفتوحاً في الشارع الذي لا ينام. يمتهنون العزف والغناء ويستقطبون المارّة من هواة السهر، ويتشاركون معهم موسيقاهم من غير حجوزات مسبقة، ولا شبّاك تذاكر. لا يسعون إلى الربح أو تحقيق مكاسب مالية سريعة، ويكتفون بما يطرحه المارّة من الأموال، وغالباً ما تكون من القطع الصغيرة في قعر «الكرتونة» التي صارت بديلاً عن القبعة التاريخية لدى موسيقيّي الشوارع الأوروبيين.
موسيقاهم خافتة، لا تصدح ضجيجاً يولّد قلقاً وانزعاجاً في الشارع، حيث لا يملكون معدّات تكبير الصوت أو تضخيمه. بل مجرّد عازف على «الأورغ»، أو نافخ في الناي، أو يشكّلون فرقةً صغيرة يعزف أفرادها على آلاتٍ عدّة، ويؤدّون أغنيات عاطفية رقيقة بلغات عدّة.
هم في إقامتهم على الأرصفة يترنّحون في المنطقة «الرمادية» بين الاحتراف والهواية، وبين من يقدّر فنّهم ويشجّعهم، ومن يعتبرهم مجرّد متسوّلين اتّخذوا من الموسيقى وسيلة لمدّ اليد، أو كسالى يسعون إلى الحصول على المال بغير جهد. أما الأكثرية الغالبة من الناس، فتراهم فعلاً موهوبين يستحقّون التشجيع على الاستمرار في خطوتهم، وحتى دعمهم على تحقيق أحلامهم.
ولِمَ لا؟ ألا يكفي أنهم يضيفون جوّاً لطيفاً وسط تلبّد الجوّ العام المنخفض في البلد! ويمنحون الشارع بعض فرح وإثارة مذاقات جديدة؟ وينقلون الناس إلى عالم تحكمه الموسيقى في بلد تحكمه الضغوطات والأزمات الاقتصادية؟ ينام ويصحو على وقع الاحتجاجات والاعتصامات، في استدعاء لحظات أُنس عابرة كعبورنا السريع للأرصفة؟
أحد المارّة الذي استوقفته هذه الموسيقى ويبدو أنه من متتبّعي هذا النوع من الفنون علّق على هذا الظاهرة بالقول: «موسيقى الشارع في أول انتشارها في الشوارع الأوروبية لم تأتِ استجابة لحاجة مالية لدى الشبّان فقط، بل في غالبيتها استجابة للظروف السياسية والاقتصادية القائمة. فلا عجب أن تنشأ عندنا مثل هده الظاهرة، مع انسداد أفق المستقبل أمام غالبية الشباب، فقرّروا أن يخوضوا التحدّي على طريقتهم. وهذه ظاهرة شائعة في المدن الأوروبية وتلقى رواجاً في بعض الدول العربية وتحديداً في المدن المغربية. نعم أنا متحمّس لهؤلاء الشباب.
«إنهم مبدعون والفكرة راقية»، يقول عابر آخر.
«أجواء لطيفة ممتعة أحبّتها بناتي»، تقول سيدة عربية استوقفتها النغمة التلقائية.
بعض التعليقات لم تخلُ من بعض السخرية كقول أحدهم: «هيدي شغلة يلّي ما عندو شغلة»، أو «الفاضي بيعمل قاضي». أما التعليق الأكثر إيلاماً على ظرافته قول أحدهم: «يا عمّي الشغل مش عيب… شو ما كان».
ومن المارّة أيضاً من لا يستوقفه طنين طبلة ولا حتى دويّ مدفع، غارق في أوشحة العزلة، أي «خارج نطاق التغطية» على ما تقول لغة الهواتف الذكية.
في دفاعهم عن «واجهتهم الفنية» وقد استفزّتهم المقاربة التي نقلناها إليهم «أنتم متّهمون بالكسل»، يقول أكثر الوجوه حضوراً على الرصيف: نحن مجرّد شباب نعشق الموسيقى والعزف، هي طريقتنا الخاصة في التعبير. اخترنا الشارع كمجرّد محطة أولى على سلّم أهدافهنا، إلى حين توفّر الفرصة التي تسمح لنا إثبات ذواتنا. بعضنا يعملون في النهار في مجالات تخصّصهم، والعزف عندهم مجرّد هواية. وآخرون سعوا إلى وظيفة ولم يوفّقوا، فوجدنا أنفسنا في الشارع. لكنّنا لسنا «أولاد شوارع»، ولغتنا ليست «لغة شوارع». طبعاً لا أقصد هنا الفنّ المسمّى لغة الشوارع المنتشر عالمياً والذي بدأ يشقّ طريقه إلينا. بل نحن نقدّم فنّاً على غرار ما يفعله رسّامو «البورتريه»، أو فنّانو الغرافيتي على الجدران وغير ذلك من الفنون التي تتّخذ من الشارع مساحة حرّة. وهي «منفرج» مفتوح فعلاً على ممارسة كافة أشكال الفن.
«نحن لسنا متسوّلين»، تقول الصبية مغنّية الفرقة، وفي الحقيقة لم نصادف أشخاصاً عاملونا على أننا متسوّلين. فنحن لا نستوقف أحدا أو نعترض المارّة. نحن نؤدّي عروضنا الموسيقية على سجيّتنا. وكثيرون من الناس يتوقّفون بطيبة خاطر للاستماع إلينا وتشجيعنا، وثمة كثيرين يلتقطون معنا صوَر «سيلفي» كما فعلت أنتِ! سبيلنا كسبيل تلك الفِرق الأجنبة التي تتكبّد المجيء إلى لبنان ليشاركونا فنّهم على قارعة الطريق، ولا أحد يرميهم بتهمة الكسل، بل على العكس، هم مرحّب بهم والناس يلتفّون حولهم. والأكيد أنهم لا يتوخّون الأموال الطائلة مقابل ذلك الشغف الذي قادهم إلينا كما سيأخذهم إلى بلدان أخرى.
عند هذا الحدّ من تبادل الكلام مع الفرقة الشابة، انسحبتُ متراجعة إلى الرصيف متّخذة مكاني إلى جانب «الزبائن» الذين شاركونا حديث «الأخذ والعطاء»، لتنتصر منصّة هؤلاء الشباب الذين يروّجون مفاهيم الفرح والحبّ ولو على قارعة الرصيف في زمن تُستغلّ فيه المنابر والمنصّات لترويج «صليل الصورام» نشيد الكراهية للفكر الإرهابي.