«ويزهر من أكمامه الدراق»…. غياب بحجم وطن جريح!
محمد رستم
وأنا أتملّى باكورة أعمال الشاعرة مجدولين الجرماني، انتابتني الحالة إياها… حالة التماهي العشقي مع سطوة بهاء الحرف الساحر، فطفت أتلمس في غنج الحرف وهمس البوح، وهج الأنثى وعطر الكلمات… وأنا المتخم بجينات تضخم فحولة الشرقي… فباتت باصرتي لا ترى في القصائد حتى المسترجلة منها إلّا الأنثى وصارت حواسي تتلقط الحبر كأروع ما تكون ماهيته العطور المعتقة بعبق الأنثى، أغازلها، تتدلّع رغبة، أنادمها… يضجّ أريج أنوثتها كأنها تناكفني. تأخذني الرؤيا فأغفو على نقطة نون النسوة، أحلم بكمال دائرة التاء الملأى برضاب النشوة ووهج الإحساس وأنا المدمن أثمل لأول حرف تتنهد به القصيدة… لم لا والغزل من أرقى أنواع القصائد لأنه يحاكي عنصر الجذب الأقوى الذي من ابتدأت الحياة وبه تستمر وتنحصر المحاور الدلالية في الديوان بالشكوى من نأي الحبيب والتوق للقائه وبعض من ذكريات ومحور الوطن ومعاناته.. ومنذ البدء ومن أول هامش في الإهداء الموجّه لأبنائها نلحظ صدق وعمق مشاعرها بل وعي الشاعرة لذاتها من خلال توجيه بوصلة إبداعها نحو الجذور… جهة امتدادها في الحياة..
والعنونة ويزهر من أكمامه الدراق وقد اقتطعتها من قصيدة مجرة متاهة ولو لم ترد في مداميك القصيدة لغام المعنى في متاهات الغياب ولفتح الباب على احتمالات لا تحصى من التأويلات…. إلّا أنّ وروده في متن القصيدة أحاله إلى ترجمة بلغة الحواس للوحة تعرب عن حالة الضيق والضياع الذي تعيشه حواء بعيداً عن آدمها بل وضيّقت الدلالة حين سورتها بعقارب الزمن وإلى أن يرتدي العتم عباءة الفجر… ويزهر من أكمامه الدراق . إذاً اللوحة ذات دلالة زمانية بل تشير إلى فصل محدّد من الزمن وهي تقبع في المدى المجدي لصفع لحظات الانتظار المرة… وواضح أن حروفها إنما هي تنهدات متوجة بأكاليال الزهور تبلسم الآه بمر الصبر وقد اختارت وقت ازهرار الدراق، هذه الفاكهة الشهيّة المذاق كحواء لحظة التألّق، الساحرة بأزهارها كعذراء لحظة النضج، متفردة بملمسها المخملي وحضورها الطاغي كأنثى تزنرت بالبهاء، فكيف إذا كان رحيق الحبر مستقطراً من أريج الدراق؟!
و كما الغزل في مقدّمات قصائد أدبنا القديم.. ، أفاطم مهلاً…. طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب…. بانت سعاد…إلخ… هي تلوب بحثاً عن نصفها الافتراضي .
المتعثّر في الغياب وتقسم ثلاثاً بأنها ستحشد له الحبّ وكل القبلات… ومنذ لحظة دخولها عالم القارئ تقدّم أوراق اعتمادها، بطاقة شخصية معتقة بعبق الوطن وبكل اعتزاز تعلن على رؤوس الأشهاد أنها من الجبل الأشم من جبل أشم لا يعرف انحناء سنديانه انبثق من صخر أصم… ، لذا فقد اكتسبت الصلابة من تربة منبتها كما نهلت الجمال والعذوبة من تفاح الجبل ومن شهد عسله..
والديوان إذا استثنينا بضع قصائد تحمل على كاهلها الهمّ الوطني فإنه يكاد يكون قصيدة واحدة… تعزفها الأنثى على تنويعات في المواقف والمشاعر حاملها الأساس مناجاة الحبيب الذي غيبته مسافات البعد… لذا نجدها تنزف حبراً من مرايا الروح أنيناً مسكوباً يرشح من جدران الذاكرة ومسامات المعاناة كيف يا ترى أخبره بأنني امتزاج الحرف في حبره وعلى صعيد المبنى يبقى الديوان همسات خفيفة الظل ناعمة الوقع. توشوش بها الشاعرة مسمعنا دون أن تعلي الصوت رغم حرارة الجوى الذي تكتوي به لذا فقد قاربت عباراتها المزامير اللاهوتية وهي تراقص أقمار الحب على ترانيم الحروف تحدوها أحلام ورغبات معشوشبة بسحر ذكريات متلفعة برداء العشق هي حميميات لقاءات مسترخية في روابي الذاكرة ترتفع حرارة وهجها حدّ الغليان فتجهد الشاعرة بكل ما أوتيت من لهفة وأماني أن تحيلها من أرخبيلات السراب والوهم إلى تراب الواقع..
كيف أقول أحبك وبيننا غيم صيف وعمر من الغربة ها هي تعزف على قيثارة الوجد مقامات العشق وهذه الحروف ندى في يباس الحياة المتصحرة بعد أن افتقدت نداوة الحبيب، فبتنا على هسيس همسات بوحها نستحم برذاذ اللهفة ومس الحكاية فتخضر الشرايين في القلوب المتحطّبة بعد أن أتخمتها الخمرة الملائكية ذات صدفة فاقتني يداك حسنا… يا لحبرك… سور تحرسه ظلال مدينة الشمس هي تدبج عبق التوق بأبجدية نازفة على أنغام نبض الشرايين أيها المتشح برائحة ياسميني لا تلم حبري حين يكتبك ويمحوني !
ولعلها تفردت في تداخل واقع الوطن الجريح مع حالة الوجد للحبيب لذا نقول بأنها امرأة غاصت في تراب الوطن حد الترائب أضحى البارود كحل المقل وفي ليلة نأي الحبيب تنوح حواء وتجلد آدمها باللوم كيف طاوعك القلب.. ونسمعها تتحدث بصوت النساء ورفضهن الخضوع.
فياتي حبرها ممثلاً لهن، فتعلن أنها لم تخلق فقط لتقول للرجل نعم… نعم.. ولا تفتأ تماهي بين الأنثى والوطن فهي زرقاء يمامية وهي ياسمين دمشق.. . أخيراً، لا بدّ من التنويه إلى أن القصائد تشكو من تمادي السرد مع أن الوجد الإنساني الراقي يطفو من الحروف ولعلّ الصور المؤثرة تؤكد جمالية الريشة الفنية للشاعرة بين كفّيه تشرق تفاصيلي ، همسه يذيب جليد شراييني…. الديوان خطوة أولى، لكن واثق الخطوة يمشي شاعرا .
كاتب سوريّ