«هَيْ هيّي الشام»… إلى د. طالب الرفاعي

الأمين سمير رفعت

بينما كنت أتابع تداعيات مذكرات الجلب السعودية لبعض مَن يُسمّون أنفسهم «قادة» في لبنان في ما كان يُدعَى «الرابع عشر من آذار» لشدّ أزرهم مجدّداً تمهيداً لعمل ما يُدبَّر.. أو للوقوف على آرائهم السديدة في القرار السعودي الهام والخطير ببث حفلة لأم كلثوم للمرة الأولى على الشاشة السعودية، أو القرار الآخر الهام والخطير بالسماح للمرأة السعودية بقيادة سيارتها، أو حتى القرار الهام والخطير بمحاربة الإرهاب عبر الصراع … مع قطر، بينما أنا غارق في هذه التحليلات الصعبة والمعقدة.. هتف لي ابن شقيقتي الدكتور طالب الرفاعي ليقول لي: لقد تذكرتك طويلاً بالأمس، يا خال في الذكرى الأولى لوفاة والدتي… شقيقتك رحمها الله، وكنت أقيم اليوم العالمي للسياحة في الدوحة العاصمة القطرية، وقد تحدّثت مطوّلاً عنك مع وزير السياحة اللبناني أواديس كيدانيان وهو شاب معطاء وواعد، فقلت لطالب لقد أحببت الوزير كيدانيان حين تعرّفت إليه من على منبر الحزب السوري القومي الاجتماعي قبل شهرَيْن، حين مثّل حزبه الطاشناق في الثامن من تموز ذكرى استشهاد سعاده في الاحتفال الذي حضرته والذي أقيم في قاعة الأونيسكو في بيروت، وبالفعل فقد أعجبت كثيراً بكلمة الوزير كيدانيان الصادقة النابعة من قلبٍ صافٍ، رغم أنه كلّف كما قال، بتمثيل حزبه نيابة عن أمين عام الحزب النائب أغوب بقرادونيان قبل ساعات قليلة من بدء الاحتفال المركزي بالذكرى.

طالب سألني مطمئناً إلى صحتي، فطمأنته أني انتهيت من المداواة التي تمّت في دمشق بشكل كامل، وقلت له: بارك الله لنا في شامنا التي ما زالت بعد سنوات الحرب الظالمة تلك، تكلّف في الطبابة أقلّ من عشر الكلفة في بيروت. وحين قلت لطالب بارك الله في شامنا أحسست بدمعه قد نفر من عينيه بكلّ هدوء، وهو البعيد في مدريد، حيث يشغل موقع أمين عام منظمة السياحة العالمية للمرة الرابعة انتخاباً وسيستمرّ في موقعه حتى نهاية العام الحالي، حيث تمّ انتخاب بديل له.

في اليوم الثاني لتلك المحادثة الشامية السياحية العاطفية وردت على الهاتف المحمول رسالة من طالب تتحدّث عن الشام فيها من كلمات الحب والعاطفة والحنين ما جعلني أحسّ بلوعته لفقدانه الشقيقة «جيهان رفعت الرفاعي» قبل سنة، والتي كانت محبة وكريمة وصادقة كالشام، وحين وصلتني رسالته تلك شعرت كم أنه يفتقد أمه، وهو ابن الجنوب السوري الفلسطيني الأردني وكأنه اختصر حبه للشام في والدته التي غابت قبل سنة. فكان لا بدّ له من أن يعبّر عن هذا الحب بتلك الكلمات النابعة من القلب وهنا أنقلها حرفياً:

واحد بيسألني ليش كلّ هالقد بتحبّو الشام؟ الشام هي رائحة البنّ بالبزورية وعجقة سوق الحميدية وصلاة العيد بالأموي وزيارة قصر العظم، هي أكل الذرة المشويّة والصبّير بالروضة والبوظة عند دامر. هي ثلجات بلودان وزهر الغوطة. هي سيران الشادروان والمشاوي بالفيجة والبطيخة بالنبع وكرز مضايا وسفرجل الأشرفية وجانرك بسّيمة ووادي بردى. هي النومة بأرض الديار بعد الشطف والياسمينة والنارنج والكباد، هي شرب مية الفيجة الباردة من الحنفية بيوم صيف والتمر الهندي والتوت الشامي.

الشام هي اجتماع العيلة وسكوت الجميع بالبيت والمحلات ولا يبقى سوى الراديو لنسمع المساعد جميل والرائد هشام وطبعاً أستاذ مصباح المتهم بمعظم القضايا في حكم العدالة كلّ يوم ثلاثاء. هي ما يطلبه الجمهور يوم الأربعاء لمشاهدة أحدث الأغاني. هي موسيقى «غداً نلتقي» يومياً قبل النوم. هي سوق الجمعة آخر الليل وخبز التنور مع الفول عند بوز الجدي وجمعة الشباب الحلوة. هي روحة الشلة على حمام السوق وأكلة التسقية بالسمنة والصنوبر جوات الحمام. هي طلعة مضايا مع الشلة والرعبة من دوريات التفتيش أن تكشف البواط الإيطالية والجاكيتات الجلد يللي لابسينها. هي الكنافة النابلسية عند أباظة. هي شاورما أبو العبد يللي بدك تاكلك شي عشرة ولسا بدك كمان أكتر. هي الشوكولامو بالتوليدو جنب جنينة الجاحظ أيام ما كان توليدو.

الشام سكبة من عند الجيران، وقوم ابني اسآل جارتنا جبلِك شي من عند السمّان. الشام عرق سوس وتمر هندي برمضان من العقيبة، وبطريقك كيلو مشبّك وأصابع وعوّامة. الشام رائحة الملوخية معباية الحارة، جارتنا طابخة بامية ورز. الشام رائحة المعمول… وبعات هدول دوّقهن للجيران.

كيف كانت الشام؟ وما أدراكم ما الشام؟ الشام في القرن الماضي لم تكن شوارب مفتولة كأبو النار وأبو الغضب وأبو حديد، أو مجموعة من السكّان يشمّرون عن أكتافهم كأبو عنتر، ولم تكن قهوة وأركيلة وشيخ سلتة لا يظهر إلا بالصورة الكاراكوزية، كما أراده المخرجون الفاسدون بمسبحة طويلة وطلاقات النسوان والجنائز وعمله فقط أن يؤذن في الجامع ويصلّي في الناس.

الشام ليست سيران الغوطة والزبداني وزبادي المحلاية وصدور الكنافة وحلاوة الجبن ودف ومزهر وحضرات دروشة وتهريج وتلبيسة وسهرات. الشام في القرن الماضي يا سادة هي الجمعية الغرّاء والشيخ علي الدقر وبدر الدين حصني وعبد الكريم الرفاعي وحسن حبنكّه الميداني ومحمد أمين كفتارو وعبد الرؤوف اسطواني وعلي الطنطاوي، ومفتيها العام كان طبيب بشري هو الشيخ الطبيب أبو اليسر عابدين، ومؤذن مسجدها حافظ القرآن، أسواقها تصدّر الأمانة للعالم وأحسن وأكثر البضائع إتقاناً وحرفيةً، تجّارها علماء كان آخرهم الشيخ التاجر نزار الخطيب إمام الجامع الأموي الذي مات حديثاً، رحمهم الله.

الشام في القرن الماضي هي شام الجهاد شام حسن الخرّاط ويوسف العظمة، الشام التي خرج منها كبار المجاهدين في فلسطين كالشيخ عز الدين القسّام….

وهنا توقفت رسالة الحبيب طالب، وكأنّ دمعه الذي بلل الورق منعه من الاستفاضة في الحديث عن الشام التي له معها تاريخٌ يعود إلى أربعينيات القرن الماضي حين كان والده ضياء الدين الرفاعي يدرس الحقوق في دمشق، وقد عمل مذيعاً في إذاعة دمشق التي أُحدثت آنذاك إلى جانب الأمير يحيى الشهابي وآخرين قلائل وفي الشام تعرّف إلى شقيقتي وتزوّجا، حيث كنّا نقطن في حي نوري باشا، وكان في الحي ذاته القنصلية الأردنية وكان الشاعر والأديب الوطني الكبير عبد المنعم الرفاعي شقيق صهري قنصلاً عامّاً للأردن في الشام، وكان يُعرف بمواقفه الوطنية المؤيدة للثورة السورية آنذاك، حتى أنه قيل إنه كان يهرّب الأسلحة للثوّار بسيارته الدبلوماسية وأصيب برصاصة في رجله في عملية تهريب، تلك الرصاصة الفرنسية تركت عنده عاهةً مستديمة طوال عمره. وهو الذي تسلّم رئاسة الوزارة في الأردن بعد شقيقه الأكبر سمير الرفاعي وقبل ابن شقيقه زيد الرفاعي، وقد عرفوا جميعاً بمواقفهم الوطنية.

وللحبيب طالب صلة بالشام حين عمل والده ضياء الدين الرفاعي سفيراً للأردن في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي كواحدة من تداعيات سايكس ـ بيكو.

هي الشام يا طالب التي انتصرت في الماضي وتنتصر اليوم على آلة الغدر بفضل جيشها وشعبها وقيادتها وحلفائها ونسور زوبعتها… ألا بارك الله لنا في شامنا.

وأستعير من رفيقنا الراحل رفيق السبيعي أبو صيّاح أهزوجته الرائعة فأردّد معه: هَيْ هيّي الشام…

رئيس المجلس القومي في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى