إيلي حديّد الآتي مع طلوع الفجر
فهد الباشا
هو من أوائلنا الطلائع في زغرتا الزاوية، أوائلنا الذين أقبلوا على النهضة مرآة لما في نفوسهم، فانجذبوا إليها، اعتنقوها عقيدة، وعانقوا الضوء رفيقاً على طريق ليلٍ طويل…
إيلي حديّد الآتي من هناك، من منظومة قِيم ومفاهيم، يُحاكَى، بما له أو عليه، من خلال ما جسّده في حياته، ممّا كان يدعو الناس إليه… وتلك قاعدة عندنا لا تحتمل تعديلاً أو تأويلاً أو تبديلاً… ولا هي تتوقّف عند الفواصل والتفاصيل إلا للتدقيق في الحساب. أمّا إذا اختفت، مع الرحيل الطويل، تفاصيل، فتبقى من الإنسان، عصيّة على النسيان، مواقف له على محطات معيّنة، هي عناوين ثابتة تفهرس حقيقة ما كانت عليه حياته. من هنا، تتقلّص الحاجة إلى الأقوال شهادة، حين تنطق بالشهادة الأعمالُ…
إيلي حديّد، الآتية ذكراه من هناك، إنّما أتى الحياة مذخّر الإيمان بتفعيل «الوزنات»، متسلّحاً بنهج جديد في الزرع، في الحصاد، في الإنشاء، في البناء، متخرّجاً بتفوّق من مدرسة تتصدّى تعاليمها لهلاك الاستهلاك العبثي، معوّلة، في التطلّع إلى الأمام، على تثمير الطاقة الإنسانية في الإنتاج فكراً وصناعة وغلالاً…
ثلاثة ميادين صال فيها حديّد وجال وجلّى، ثابتاً على الإيمان والالتزام.
ذلك الآتي من هناك، نحيّي ذكراه اليوم، وقد هوى من أربعين، سنديانة من آخر سندياننا العتيق… ونقصت، مع غيابه، بيدر حقّ وخير، بيادر رشعين، وانطوت حكاية من تاريخ البيادر، ولكن لا ينطوي التاريخ، بل يبقى مفتوح الدفّتين أمام الماضي، من بيننا، إلى الإقامة في ذمّته، في أماكنه.. ولا يبقى الكلام من بعدُ عليهم مجرّد ذكرى لاستحضارهم للحظات من الغيب، بل يصبح مساءلة تستجلي حقيقتهم عارية إلا من جوهر فرض ذاته على الوجود. حقيقة إيلي حديّد التي بانت بعد رحيله أكثر سطوعاً، تشبه روحه التي لا تحتاج إلى استحضار لتشعر بها ترفرف حدّك، تذكّرك بآخر اللقاءات معه، في دارته، في البيادر، حيث كان حدسُه بالرحيل تعبيراً في إلحاحه الشديد على أهل الاستنارة من أهل مودّته، بضرورة المعاجلة في التصدّي للتصحّر القيمي الآخذ في اجتياح الحقول والعقول، في زمن عربي مُوغلٍ في موت عبثيّ لا يشبه موت البشر.. إلى ذلك، يبقى حديّد، في ذاكرة عارفيه، نموذجاً إنسانياً في المروءة، رفعةً وليناً، ودماثة خلق على صلابة وثبات في مبادئ النهوض بالحياة. ما خرجتُ، مرّة، من لقاء معه، إلا وأنا على يقين أنّ «من لانت كلمته وجبت محبّته». وما علمته على حدّ القول الشعبي إلا آخذاً بثلاث: «بحسن الحديث إذا حدّث، وبحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤونة إذا خولف».
إيلي حديّد، مَن جالسه، ولم يكن على معرفة مسبقة به، حسبه أصيلاً من أهل الجدارة العليا في الدبلوماسية النبيلة.
ومن المحطات المشعّة أضواؤها على حقيقة الرجل، والتي تستوقف الراصد حركة الصيرورة والتحوّلات، فإقدامه، مطلع ستينيات القرن الماضي، وهو لمّا يتجاوز الثالثة والثلاثين، على اقتحام الميدان السياسي مترشّحاً للانتخابات النيابية… وأين؟ في منطقة ؟؟؟؟، تشبه خطوة حديّد يومها، خطيئة التجديف على الروح القدس، أو هي بمثابة الاعتداء على «الشريعة والناموس»…
كان السائد، في ذلك الزمان، أنّ الأرض والسماء تزولان وحرف من ناموس الإقطاع لا يزول. إيلي حديّد، الآتي مع الفجر، رأى رأياً آخر: لا شرعيّة لما يعرقل تطوّر الحياة، فترشّح للانتخابات ومضى، يده على محراث نهضة لا تلتفت إلى الوراء.
ولا تلبث دهشةُ المراقب أن تزول حتى يتبيّن له أنّ ذاك الحديّد الجريء، هو من مدرسة معروف عن طلابها، ولا سيّما في ذلك الزمان، أنّهم لا يقصدون في الحياة لعباً.
إيلي حديّد،
أيّها الباقي بما أبقيت..
نحجّ إلى ذكراك اليوم وغداً، وحَجّتنا إليك أنّ «خير الناس من بقي بالعدل ذكرُه، واستمدّه مَن يأتي بعده».
ومن قبلُ ومن بعدُ، لك التحيّة على رجاء القيامَتين.