الثقافة متّصلة بالأخلاق
جورج كعدي
أدافع باستمرار عمّا أراه متّصلاً ولا فكاك فيه بين أمرين، الثقافة والأخلاق. ويقاسمني كثر الرأي حول هذه الصلة، فيما يُظهر بعض قليل برودةً أو عدم فهم لما يجمع الأمرين على نحو وثيق.
المعيار لديّ أن الشعب، أيّ شعب على وجه البسيطة، كلّما ارتفعت ثقافته سَمَت أخلاقه. وتثقيف الشعب ذو منابع متعدّدة، بينها العائلة، النواة الصغيرة المهمّة جداً، والمدرسة حيث التثقيف واجب يسبق التعليم، ومن ثم الدولة والمجتمع المدنيّ، إذ في وسع الدولة أن ترعى الثقافة والفنون وتدعمها وتخصّص لها الموازنات والمشاريع وحتّى البنى التحتيّة من مراكز ثقافيّة وصالات عرض وغيرها، فيما يساهم المجتمع المدنيّ في المناخ الثقافيّ العام عبر إقامة الأنشطة ورعايتها ودعمها أيضاً «السبونسور» أو «الراعي» في خانة المجتمع المدنيّ، الخاص لا العام .
أمضي أبعد إلى القول بأنّنا لو أردنا قياس درجة تمدّن شعب وتطوّره لوجب أن نرصد أوّلاً وبدءاً مستوى ثقافته واهتمام أفراده بالفكر والفنون وبالثقافة عامّة، حينئذٍ نرى فوراً الصلة والرابط، ولدينا العديد من الأمثلة في بعض المجتمعات الراقية، كالمجتمع النمساويّ مثلاً، أو الإيطاليّ، أو السويديّ… فيينا وروما واستوكهولم مدن وعواصم ثقافية بامتياز، بل يمكن وصفها بالمدن المتاحف، لا لآثارها القديمة وعماراتها العريقة فحسب، بل لأنّ فيها ما لا يحصى من المعالم الثقافية والفنيّة والأدبيّة، مثل دور الأوبرا والمسارح والمكتبات العامّة الضخمة وغاليريات العروض التشكيليّة… في مدن كهذه يتنفّس المرء ثقافةً، ويقتات إبداعاً فنّياً، ويشمّ عطراً من شعر وأدب، ويشبع نظره بالجميل والرائع… ينمو الإنسان في بيئة راقية، سليمة، مشبعة بالخير والجمال، فيسمو فكراً وجوهراً وإنسانيةً، وتزول من عقله وتكوينه آفات التخلّف والعصبيّة والجهل وضيق الأفق، وترتقي ذائقته الفنيّة والأدبيّة، وترتفع شخصيّته إلى ذرى عالية من الوعي والتسامح فتتطهّر نفسه من الغريزة والتعصّب والعدوانيّة، ليتحوّل إنساناً مكتمل الإنسانيّة، نيّر العقل، حضاريّاً متطوّراً بكل ما تنطوي عليه معاني الحضارة والتطوّر.
على النقيض من تلك المجتمعات وإنسانها المثقّف المكتمل الإنسانيّة، نرى شحّ الثقافة والفعل الثقافيّ في بلادنا ينتج إنساناً هو أقرب إلى الإنسان البدائيّ الذي تسيّره بل تتحكم فيه غرائزه العدوانيّة خاصّة وعصبيّاته المقيتة من كلّ نوع، وجهله الغالب على مظاهر عيشه، فهو عدوانيّ مع أقرانه في سائر الأوضاع والمجالات، حتّى في قيادة السيارة التي تشي بمثل هذا التخلّف والنقص الثقافيّ. وهو إنسان طائفيّ ومذهبيّ غير منفتح وغير متسامح، أيضاً لعَوَز فكريّ وثقافي يكابده. وهو عنصريّ رافض للآخر المختلف عرقاً أو جنساً أو لون بشرة، مع تعالٍ لا يظهره سوى الجاهل والأمّي الذي لا يفقه جوهر الوجود والعمق الإنسانيّ والقيمة المتساوية وفضيلة القبول والتسامح. وهو إنسان عوض القراءة لساعة واحدة يدخّن النارجيلة لساعات، وعوض زيارة معرض أو مشاهدة عمل مسرحيّ يمضي نهاراً كاملاً في ترّهات «الفيسبوك» و«الواتس أب»، وعوض الاستماع إلى موسيقى مبدعة يتسمّر أمام شاشة التلفزيون أمسية كاملة لمتابعة الترفيه الإنترتينمنت المنحطّ… وقس على ذلك.
لن أبقى ختاماً عند مقولة صلة الثقافة بالأخلاق، فهما في يقيني بعد اليوم أمر واحد وليسا أمرين متّصلين فحسب.