في مثواك الأخير… لن أنسى أن أحبّك أكثر
هالة حسن جعفر
اليوم، وأنا أجلس على أريكتك الموحشة الباردة، ألتفت حولي تارة وأنظر إلى صورتك تارة أخرى، لأرى الكثير ممّا أورثته لي كلوحات وألوان وذكريات، من أشياء ملموسة بقيت رغم رحيلك المفاجئ. فينتابني ذاك الشعور الثقيل بالحزن، ذاك الرفيق الذي يقضي عليك من شدّة التصاقه بك. فأهُمّ بكتابة ما يخطر في البال، علّني أخفّف من بعض التساؤلات التي تدور في رأسي، فأسقطها حرفاً حرفاً على الدفتر.
هو الموت وما يخفيه عنك كإنسان، ما زلت على قيد الحياة، هو تلك الحقيقة السمجة اللامنطقية في الوجود. ما هي تلك القدرة الهائلة التي يحقّ لها أن تنزع أحدهم من فراشه الدافئ لتأخذه إلى مثواه الأخير حاملاً معه جسده فقط؟ ما هي هذه الحقيقة التي تجعلك تستمرّ في الحياة، مرغماً مع كلّ الغبار النتئ فيها. لِمَ لا يحقّ لنا أن نقرّر متى نرحل وإلى أين نودّ الرحيل؟
اليوم، وقد رأيتك في موتي الموقّت تحادثني عن منزلك الجديد فرحاً، عن اشتياقك لي وعن عزيمتك في أن تُنهي كلّ ما تركته هنا. لم أصدّقك، ولم أفرح، فقد بكيت أكثر وحزنت أكثر حتى أني شعرت بالحاجة إلى أن أستيقظ من هذه الخدعة البصرية أثناء النوم، فأنت لستَ إلى جانبي، وأنا هنا وحدي على السرير.
هذا الوهم الذي يلاحقك كإنسان فقد شخصاً مهمّاً في حياته يجعل منك شخصاً مختلفاً عمّا كنت، ربما تكون أكثر ألماً في ضعفك وأكثر لؤماً في قوّتك. فما هو المعنى من أن يتبخّر حلمك فجأة؟ وما هو المعنى في أن تبقى محدّقاً في الأيام التي تمرّ على جسدك ببطء شديد وكأنها لم تكن؟ أين يكمن السرّ في العدالة الإلهية التي يتحدّثون عنها مَن هم أكثر فقهاً؟
هو الموت وحده القادر بلحظة مجنونة أن ينزع من رأسك جميع تلك الأفكار والمبادئ التي رتّبتها بعناية فائقة في الجزء الأرقى منه، فلا أحد يلتفتُ إلى مصابك سوى بعض الهلوسات التي تطرأ عليك فجأة، تأخذ بيدك بعناية في البدء ثمّ تشدّك نحوها إلى أن تشعر بالانهيار. هذا الانهيار الخرافي غير المفهوم الناتج عن فعل مجهول لم يتوصّل إليه أيّ عقل عبقريّ حتى الآن.
أنت، ورغم كونك غادرت هذا العالم، ما زلت أشعر بوجودك في عالمي الخاص، حتى أني أصبحتُ أمارس جميع تلك الطقوس الدينية التي يتحدّثون عنها، رغم كوني أضع عليها الكثير من علامات الاستفهام إلا أني نفّذتها، علّني أجد نفسي قريبة منك في مكان ما. لا يهمّ.
أنا، ورغم كوني لم أزل على قيد الحياة، لم أعد أشعر بوجودي، لم يعد الصباح بنكهة القهوة، وذاك المساء الذي كان، رحل مع آخر سيجارة أطفأتها هنا. لم يعد لي شيء منك سوى القليل، حديث لم ينتهِ على الشرفة، بعض من تقاسيم وجهك الهالك، وكم من الذكريات التي أصبحت أسجّلها مؤخّراً علّني لا أصاب بالألزهايمر، هذا المرض الوراثيّ اللعين.
رفيقي، لم أؤمن يوماً بالموت. لكنّني منذ رحيلك أصبحتُ لا أؤمن بالحياة أيضاً. لا أخبرك هذا لأحزنك، لكنّني أحدّثك وأنت القريب البعيد عمّا يراودني في هذه الأثناء، ربما أكون في حال أفضّل لو أنك تلوّح لي، أو يصيبك السعال من حيث أنت، ربما تمرّر يدك على جبيني أو تقرأ لي شيئاً كتبتهُ لك قديماً. رفيقي، لا تحزن على ما أصابني، فأنا اليوم أكثر حزناً منك، وأكثر ألماً عليك، فأنا وحدي مَن يعدّ الأيام وكأنّها حبّات من الملح.
رفيقي الذي أحبّ، رغم حزني الشديد لرحيلك، وأملي الغائب برجوعك، إلّا أنّني ما زلتُ أملك الكثير من الحبّ. لك منّي في مثواك الأخير قبلة أضعها يومياً على التراب، علًها تكون نسمة خفيفة عليك. لك منّي أيها الغائب الحاضر كلّ الحبّ، كلّ باقات الزنبق ورائحة الحبق وألوان البنفسج في زهور اللافندر التي تحبّها. لك منّي هذا الخريف وهذا الهواء، وكلّ أغاني الحبّ والاشتياق.
رفيقي، لك أنت ما تبقّى من العمر، كلّ العمر.
نصّ وجداني في ذكرى رحيل زوج الكاتبة