المسرح… والتشكيل الحركيّ
د. غسان غنيم
أعلى أرسطو من مرتبة النص المسرحي، وعدّهُ نصّاً أدبياً يجدر بالأرفع ثقافة ومعرفة وحكمة، أن يتأملوه، بينما، رأى في تجسيد مثل هذه النصوص فوق خشبة المسرح عملاً ليس أساسياً وربما يقع في مرتبة أدنى، وهو ألصق بالأقل ثقافة ورقياً ومعرفة. فالنصّ المسرحيّ لديه نصّ أدبي أداته اللغة، ويمكن تقييمه من جهة الكتابة الأدبية ومدى إتقانها أو التزامها بآليات كتابية معينة ومن دون افتراض وجود عناصر تجسيد النصّ، من ممثل وخشبة ونظارة، يشاركون في تحقيق العرض واكتمال عناصره ولكن الأمر في المسرح ليس على هذه الصورة فالمسرح فن يتلازم فيه الجانب الأدبي الدرامي الذي يتعلق بالكتابة المسرحية مع الجانب الفني الذي يتعلق بالتجسيد، الذي لا يتحقق إلا عبر وسيط مهم لا تكتمل عملية التجسيد إلا من خلاله وهو الممثل حيث يشكل التجلي المادي للشخصية المرسومة من خلال النصّ.
والمسرح فنّ الممثل بامتياز، فنّ الأداء الصوتي والحركي ومن خلال مختلف المدارس التي حاولت تأطير عمله سواء عبر المدرسة النفسية التي تهدف إلى خلق حالة معاشة حقيقية، لذات الممثل الذي يخرج من ذاته للدخول في ذات الشخصية المرسومة وفق منهج «ستانيسلافسكي»، أو غير مدرسة التغريب البرشتية التي تقوم على تقنية تصوير الشخصية ومحاولة كشف مكنوناتها وتناقضاتها بعيداً عن الاندماج بها والخروج من الذات ومحاولة تقمّصها.
إن آلية التعبير عن الحركة تعدّ أساساً مهماً في المسرح وتجسيداً لعلاقة متميّزة بين الخشبة من جهة والصالة والجمهور من جهة أخرى. فالمسرح لا يمكنه أن يتجسّد إلا عبر حركة جسدية مكانية أو زمانية.
متنفّس… وكشف
ولعل كثيرين من الدارسين الذين نظروا إلى المسرح وأرّخوا لوجوده أدركوا أهمية الجانب الحركي في عملية النشوء والارتقاء، فقد رأوا أنّ الإنسان يرقص، فبعد النشاطات التي تضمن للبدائيين الضرورات المادية من طعام ومأوى يأتي الرقص أولاً. إنه أبكر متنفس للانفعال وبداية الفنون.. لقد رقص تعبيراً عن السرور، وتعبيراً عن الطقوس، لقد كلم آلهته بالرقص، وصلّى بالرقص، وقدّم الشكر بالرقص، ولا شك في أن كل هذا النشاط كان نشاطاً درامياً مسرحياً. ولكنه في حركته المصمّمة وضع جرثومة الدراما والمسرح. إن الحركة والإيماء لها أهمية كبيرة في التعبير الإنساني القديم والحديث ولا أدل على ذلك من أننا ما نزال نشرك أيدينا أثناء التعبير الكلامي على رغم وضوح الفكرة والدلالة من خلال المنطوق وحده، ولكننا نجد أنفسنا مدفوعين للتعبير الحركي الرديف لإيصال المعنى، مستعينين بحركات الوجه والأيدي والجسد.
وقد قيل إن أحد الفلاسفة الرومان ممّن شاهدوا راقصاً يؤدّي رقصة من دون مرافقة الموسيقى أو الجوقة، فبُهر بالحركة المتقنة المعبرة. فقال: «أيها الرجل، إنني أسمع ما تفعله، لست أراك فحسب ولكنك تبدو لي كأنك تتحدّث بيديك». وبذلك نستطيع القول إن التعبير الحركي يعدّ أساساً في تجسيد النصوص المسرحية، فالصوت وحده أو الحركة الزمانية لا يمكنهما صنع مسرح متكامل. الصوت الأداء الصوتي يترافق ويتزامن مع الحركة… وقد تكون الحركة أو ما يمكن أن ندعوه لغة جسدية، لغة يفهمها العالم كله، فتلويحة الوداع، أو السلام باليد، أو الابتسام، أو العبوس، كلها حركات وإيماءات تعرفها معظم الشعوب كما تشكل الحركة.
حالة مرئية، قد تكون أرسخ تأثيراً من الصوت، كونه حركة يتم استيعابها عبر حاسة أخرى… ولا يخفى أن الحركة في المسرح ليست اعتباطية تلقائية، إنما حركة معدّة ومحضّرة لتؤدّي دلالة من نوع ما، ولتساهم في إيصال الدلالة الكاملة من خلال تكاملها مع ما هو منطوق. وقد تؤدّي الحركة مجموعة من الدلالات بعيداً عمّا هو منطوق ملفوظ، ولكن غياب التعبير الصوتي عن الموقف يحمل الممثل عبء القيام بمجهود أوفر لتقوم الحركة والإيماءة بالتعويض وقد أطلق أمبرتوإيكو على ذلك اسم التجليات. بوصفها كشفاً للمعنى من خلال الجسد وليس من خلال الكلمة الملفوظة. وبما أن المسرح هو باستمرار تمرّد على النظام القائم، فإن ثمة انقلاب حقيقي في سلوكيات العرض وأشكاله التقليدية، حيث تمت الاستفادة القصوى من الجسد والحركة في المسرح، في إغناء خطابه، وتوسيع لغته، من خلال سلسلة الأفعال الحركية المعبّرة عن مجموعة من الدلالات التي يمكن تصديرها بالحركة والإيماءة الدالة التي تؤدّي الاستفهام، أو الاضطراب أو التوتر نتيجة الانتظار أو الغضب أو الاكتئاب أو الخوف أو الحذر أو الفرح… إلخ.
إنها أختي يا أمّاه
وقد أكد ستانيسلافسكي أهمية الحركة في إيصال المعنى على الممثل عندما يؤدّي دوراً وعلى الأخص إذا كان هذا الدور دوراً تراجيدياً، أن يفكر أقل ما يمكن بنوعه التراجيدي، وأكثر ما يمكن بمهماته الفيزيولوجية البسيطة . فخطّ الفعل الفيزيولوجي ستانيسلافسكي بقدر أهمية الملفوظ ويطلق عليه تسمية خط المهمات الفيزيولوجية. فهو يعتقد أن الإلهام لا يخالف الممثل دائماً ولا يأتيه إلا لماماً، وبمناسبات متباعدة، وما يمكنه امتلاكه حقاً، قدرته على امتلاك خطّ الأفعال التي تحدّد آليات حركة الممثل في موقف معيّن. إنّ مسرح الجسد والحركة يمثّل يقظة الممثل وتمرّده على أرباب العرض وعلى المفاهيم التقليدية الراسخة طويلاً في المسرح بعد أن وضعوا في اعتقاده خلال تاريخه الطويل أنه «مشخّصاتيّ» ليس إلّا.
إن النصّ المسرحيّ المكتوب يحمل قيمة أساسية عالية من حيث كونه العنصر الأساس في تكوين العمل المسرحي، ولكن الفعل الحركي الذي يجسده جسد الممثل يعدّ جوهر العمل المسرحي المنفذ، إضافة إلى المتمّمات المسرحية التي تقدّمها السينوغرافيا لتقديم مشهد بصريّ فعل ومؤثّر. ولعل كتّاب المسرح ينتبهون إلى أهمية الحركة والفعل الحركي عبر الجسد كاملاً، فنلحظ من خلال قراءة نصوصهم مدى الاهتمام الذي يعلّقونه على الحركة والأداء الحركي.
ففي مسرحية «إليسار» لوليد قاسم، نشعر من خلال الحوار بمدى أهمية الفعل الحركي عبر مجموعة من الإشارات والإيماءات الدالّة.
ـ الوالدة: ما أمر صغيري بيغماليون؟ أراه مقطّب الجبين هذا الصباح تقبّله .
ـ بيغماليون: إنها أختي يا أمّاه
إليسار: لقد أفسدتِه بدلالك يا أمّاه، أهذا ملك أم ولد متفسّخ؟!
بيغماليون: إليسار! إنه في ذروة غضبه لكنه يعود ثانية إلى طبعه يجب ألّا أنسى أنك شقيقتي، إنك كنت الأثيرة على قلب أبيها، يجب ألا أنسى ذلك، بل أنا لم أنسَ، أجل لم أنس. يغرض في ضحك ماجن .
فنحن من خلال النصّ المكتوب نكتشف مدى التركيز على الفعل المسرحي الحركي. فالأمّ ترى ابنها مقطّب الجببن ثم تقبّله، ثم يبرز غضبه من أخته، ثم يرجع إلى حالة الهدوء، ثم يغرق في ضحك ماجن… وكل هذا يؤشر إلى فعل حركيّ لا تكفي الألفاظ وحدها لتؤدّي الدلالة والمعنى.
يقول الدكتور نبيل راغب: الحركة إيحاء ودلالة من الكلمة التي غالباً ما تقصد إلى معنى شبه محدّد وتخاطب العقل الذي يسرع إلى عملية استيعاب معناها، أما الحركة فتخاطب العين وكذلك الأذن، بالصوت المواكب لها وكذاك فإن عناصرها الجمالية والدارسة والفنية أعمق معنى وأكثر ثراء من الكلمة المجردة والمرئيات التي تنطبع في الذاكرة أسرع وأعمق رسوخاً من الكلمات التي تلتقطها الأذن.
التجريب… وفيزيائية الجسد
الذاكرة لا تنسى الحركات والأضواء والألوان والإيماءات لأنها مادية وحسّية وملموسة. أما الكلمات فتتطلّب من العقل ترجمة معانيها ودلالاتها وهي عملية فكرية ذهنية أكثر منها عملية جمالية درامية.
وقد تتّضح أهمية الحركة في المسرح من خلال إدراك الكاتب الذي يمارس العمل المسرحي ليس على مستوى الكتابة فقط، بل على مستوى التنفيذ والتجسيد فتراه يكثر من الملاحظات الإخراجية التي تؤشر إلى مواضع الفعل الحركي المتمّم للدلالة. ففي مسرحية «العيون ذات الاتّساع الضيّق» لفرحان بلبل، الكاتب والمخرج، يقدّم في حوار مسرحيّ لا يتجاوز صفحتين، عدداً من الملاحظات التي تؤشّر إلى أهمية الحركة.
ـ الأمّ تحمل صينية شاي عليها وعاء السكّر وإبريق شاي وأكواب. تضع الصينية على المنضدة : أين أنتم؟ تعالوا. تلتفت ناحية الباب ثم تبدأ بوضع السكّر في الأكواب، يدخل ابنها ماجد .
ـ ماجد: الشاي، كعادتك دائماً في الموعد المحدّد. يفرك يديه . صبّي كوباً يا أمّي.
ـ الأمّ: نادِ زوجتك أولاً. يذهب متكلّفاً التأفّف والامتعاض، تعود الأمّ إلى صبّ الشاي، يدخل نزار .
ـ نزار: مرحباً يا جدّتي.
ـ الأمّ: تلتفت إليه بسرعة وتترك الشاي وتتجه نحو نزار . نزار أهلاً بك. ويقترب منها لتمسح على رأسه . غبتَ طويلاً عنّا يا بني. هكذا. ألا تعرف صعوبة الفراق عليّ.
المقطع قد لا يتجاوز الحوار فيه بضع كلمات، بينما تمتدّ الملاحظات الإخراجية التي تبيّن الأفعال الحركية عدداً كبيراً من السطور في المقطع المأخوذ للتمثيل، ما يدلّ على أهمية الحركة والفعل الحركي في إغناء الدلالة وإتمام المعنى.
تجدر الإشارة إلى ضرورة تنفيذ الأداء الحركي وفق خشبة المسرح بعيداً عن التصنّع والافتعال والمبالغة الحركية التي تؤدّي إلى ظهور حالة إجهاد غير ضرورية وغير مقنعة. أي أنّ طبيعة الفعل الحركي يجب أن تتناسب مع سياق الأداء وطبيعة الشخصية المرسومة من خلال عملية اندماج جزئيّ مع الشخصية المجسّدة. بحيث تبدو الحركة متناسبة مع طبيعة الشخصية ومع المعطيات التي رسمت أبعاد الشخصية من قبل المؤلف ومن قبل توجيهات المخرج أيضاً.
لأنّ مرجعية الدور الذي يجسده الممثل قد لا تتوافق مع ما رسمه المؤلف، فقد تكون للمخرج قراءة مختلفة استنبطها من ثنايا النصّ، ما يلفت في فنّ الممثل أنه فن يصعب تكراره بالصورة ذاتها، فما أن ينتهي العرض، حتى تستحيل إعادته بالدقة والأحاسيس والطاقة الداخلية ذاتها، فغداً سيكون عرض مشابه لكنه حتماً سيختلف عمّا كان اليوم، ولربما كان الاختلاف بتفاصيل صغيرة جداً لكن الفرق الأكيد سيكون بفنّ لعبة الممثل اليوم وغداً. فكثير من الأفعال الحركية، يصعب تكرارها إلا بإضافات عدّة بين عرض وآخر، ولكن الممثل هو وحده القادر على إضفاء نوع من الموضوعية على فعله الحركي المسرحي، عبر حالة إبداعية مستمرّة، لأن استعادة الممثل للفعل الحركي بشكل متطابق يكاد يكون محالاً وغير قابل للتحقيق، لاستعادة الفعل الحركي مشفوعاً بالحالة النفسية والذهنية والبدنية التي نفّذ من خلالها الحركة ذاتها في عرض سابق.
إن حالة التجريب التي شاعت في المسرح العربي عموماً، والسوري خصوصاً، أدّت إلى ظهور المسرح الراقص، وهو مختلف كلّياً عن المسرح الاستعراضي الترفيهي، وعن مسرح الرقص الحديث. إنه المسرح الدرامي الذي يختزل الدراما في التعبير الجسدي الراقص. باعتبار أنّ الجسد بتاريخه ورموزه وإيماءاته عالم معرفي قائم بذاته له كيانه المستقل، إنه يتمحور حول فيزيائية الجسد وتحرره من خلال إطلاق الطاقة الكامنة فيه.
هذا التحوّل شهد صداه في العالم العربي، وتشكّلت فِرق للرقص المسرحي الحديث، تقدّم أعمالاً متطوّرة في المسرح الحركي، كأعمال «فرقة إنانا السورية» ومنها عرض «جوليا دومنا»، وأعمال وليد عوني في مصر مع طارق شرارة كونه موسيقاراً، وقدّما أعمالاً عدّة منها «شهرزاد»، «سمرقند»، «الأفيال تختبئ لتموت»، و«حلم فنان».
إن المسرح الحديث لم يعد يقف عند حدود الحوار الملفوظ. والنصّ المحفوظ. بل بات يؤكّد جوانبه البصرية والحركية من خلال عروض يجسّدها ممثل بات يشكل نقطة التقاء العلامات الدالّة والإشارات التي يحملها العرض المسرحي.
لم يعد يكتفي بانتقال الدلالة عن طريق القراءة التي يلجأ فيها المتلقي إلى رسم صورة ذهنية تتصور التنفيذ الحركي، والفعل الحركي للممثلين بل بات انتقال الدلالة عبر الرموز والإشارات الحركية التي يؤدّيها ممثل محترف وقادر على تفكيك النصوص وتمثيلها ليحوّلها إلى أداء حركيّ بصريّ يقدّم المتعة والعمق.
أستاذ مدرّس في جامعة دمشق