أيّ عاصفة ستهبّ بعد هدوء ترامب الخادع؟
د. عصام نعمان
المباغتة هي هواية دونالد ترامب المحبّبة. باغت الإعلاميين قبيل اجتماعه إلى كبار قادة أميركا العسكريين بقوله: «إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة»!
سُئل: «أيّ عاصفة تعني أيها السيد الرئيس؟»، أجاب: «انتظروا، وسوف ترون»!
أهل السياسة والاقتصاد في أميركا وأوروبا ينتظرون، بقلق، منذ أسابيع وأشهر موقف ترامب من الاتفاق النووي بين إيران ودول مجلس الأمن الخمس الكبرى زائداً ألمانيا. كلّ هؤلاء ومعهم دول العالم جميعاً، باستثناء الولايات المتحدة و»إسرائيل»، راضون عن الاتفاق. ترامب ينوي، على ما يبدو، إخطار مجلسَيْ الكونغرس عدم رغبته بالمصادقة عليه، إلاّ أنه لن ينسحب منه. بذلك تصبح الكرة في ملعب الكونغرس، فهل يكتفي بتشديد العقوبات على إيران أم يتجه إلى وجوب الانسحاب منه؟
لا مصلحة لأميركا وأوروبا في الخروج من الاتفاق النووي. شركات أوروبية عدّة عقدت اتفاقات صناعية وتجارية ضخمة مع إيران ما حمل قادة الاتحاد الأوروبي على مطالبة ترامب بعدم تقويض الاتفاق. نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن دعا ترامب إلى المحافظة عليه لأنّ تقويضه يؤدّي الى عزلة أميركا. صحيفة «واشنطن بوست» النافذة حذّرت ترامب من أنّ تقويضه يؤدّي إلى صدامٍ بينه وبين حلفائه الأوروبيين، ورجّحت ألاّ يطلب الرئيس الأميركي من الكونغرس تشديد العقوبات على إيران.
غير انّ صحيفة «بوليتيكو» الأميركية كشفت ما بدا أنه السرّ المكنون. قالت إنّ الدافع الأساس لموقف ترامب هو إطلاق حملة دعائية واسعة ضدّ «حزب الله» اللبناني، من حيث هو حليف قوي لإيران، بغية «تقويض شرعيته السياسية في لبنان».
هل هذا هو عنوان العاصفة التي توعّد ترامب بإطلاقها بعد الهدوء الخادع الذي ساد مواقفه المتقلّبة مؤخراً؟
لعلّه جزء من العنوان وليس كلّه. ذلك أنّ لترامب، في سياق تركيزه على إيران كخصم رئيس لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة، أغراضاً أخرى في هذا المجال تخدم الكيان الصهيوني. فقد سبق له أن أعلن أنه بصدد التحضير لـ «صفقة القرن»، ويعني بها إيجاد حلّ للصراع الفلسطيني «الإسرائيلي». في سياق مساعيه، أوفد صهره جاريد كوشنير ومساعده الديبلوماسي جيسون غرينبلات إلى «إسرائيل» والضفة الغربية لمباشرة اتصالات ومباحثات حول ترتيبات الصفقة الموعودة. لا نتائج ملموسة، حتى الآن، لمساعي موفدي ترامب. إلاّ انّ تصريحاً لافتاً صدر عن غرينبلات إذ دعا الفلسطينيين الى الاعتراف بـ «إسرائيل» كدولة يهودية.
الواقع أنّ منظمة التحرير كانت اعترفت بـ «اسرائيل» بمجرد توقيعها اتفاق أوسلو العام 1993، لكنها رفضت الاعتراف بها كدولة يهودية لاحقاً لسبب جوهري هو أنّ الاعتراف الملغوم الذي يسعى إليه بنيامين نتنياهو من شأنه تمكين «إسرائيل» من أمرين شديدَيْ الخطورة: عدم السماح لللاجئين الفلسطينيين في الشتات بالعودة إلى ديارهم وبيوتهم بدعوى أنهم يهدّدون هوية الدولة اليهودية، وتوفير فرصة لسلطات «إسرائيل» العنصرية لتهجير فلسطينيّي مناطق فلسطين المحتلة العام 1948 بدعوى أنهم لا يعترفون بيهودية الدولة او يتصرّفون على نحوٍ يسيء إلى هويتها القومية.
إلى ذلك، تستعدّ حكومة نتنياهو كما إدارة ترامب إلى مجابهة الوضع المستجدّ الناشئ عن «المصالحة الوطنية» بين حركتَيْ «حماس» و»فتح» برعاية مصر، وما قد ينشأ عنه من ضغوط على واشنطن وتل أبيب من أجل إحياء المفاوضات الهادفة إلى تحقيق «حلّ الدولتين».
نتنياهو ليس في وارد «حلّ الدولتين». فقد تجاوز هذا «الخيار» منذ أشهر بإعلان موقف صارم: «لا دولة ثانية بين النهر والبحر». ماذا إذاً؟ لم يُجب ولم يلتزم بشيء. بالعكس، اعتمد الاستيطان المكثّف وسيلةً لتأمين مساندة أنصار الاستيطان اليمينيّين العنصريين له لتمديد بقائه في السلطة.
الفلسطينيون أدركوا سلبية نتنياهو وعنصريته الفاقعة، وبالتالي استحالة «حلّ الدولتين» ما دام هو في السلطة. ما العمل؟ بعض قادتهم أخذ يميل ببطء إلى «خيار» الدولة الواحدة. بعضهم الآخر أدرك بدوره استحالة هذا «الخيار»، لأنّ الإسرائيليين لا يعقل أن يوافقوا على مشاركة الفلسطينيين في دولة واحدة ستنتهي قيادتها إليهم، في المدى الطويل، بحكم العامل الديموغرافي العددي الذي يصبُّ في مصلحتهم.
إزاء استحالة التوافق على أيِّ حلّ أو تسوية مع الفلسطينيّين في الوقت الحاضر والمستقبل المنظور، تعمل «إسرائيل» بلا كلل على إبقاء حال الانقسام سائداً في الساحة الفلسطينية. لذا عارض معظم المسؤولين «الإسرائيليين» المصالحة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية المتنافسة. حتى الذين لم يعارضوها اشترطوا لإعادة التفاوض مع منظمة التحرير ضمانةً لتجريد حركة «حماس» من السلاح.
ترامب وجماعته يدركون كلّ هذه التحديات والمصاعب. حتى الذين يعوّلون بينهم على دور فاعلٍ لمصر في لجم فصائل المقاومة دعماً لمحمود عباس ومَن يجاريه في التمسك بـ «خيار» التفاوض، يدركون الآن أنه بعد هزيمة «داعش» و»النصرة» في العراق وسورية، وتضامن العراق وسورية وتركيا وإيران ضدّ مشروع مسعود البرزاني ومؤيديه من الكرد الداعي الى الانفصال عن العراق لإقامة دولة مستقلة، فقد بات دفع الفلسطينيين إلى تسوية غير متكافئة مع «إسرائيل» أمراً مستبعداً، إنْ لم يكن مستحيلاً. هكذا لا يبقى أمام الفلسطينيين إلاّ خيارٌ واحد: المقاومة الشعبية والمزيدُ منها.
كلّ ذلك يعزز مكانة محور المقاومة ودوله وقواه المقاوِمة ودوره السياسي والعسكري في مواجهة استراتيجية الولايات المتحدة القديمة، وتلك الجديدة التي وعد ترامب، بكشف خطوطها وأبعادها خلال الأيام القليلة المقبلة.
ثمّة حقيقة تتكشف ببطء إنما بثبات في غبشة الصراعات المحتدمة وغبارها الذي يحجب الرؤية أحياناً: نفوذ الولايات المتحدة في ساحات منطقة غرب آسيا، من شواطئ البحر المتوسط غرباً إلى شواطئ بحر قزوين شرقاً، بات في حال انحسار متواصل ومتسارع، وإنّ قدرتها على الإملاء والإلزام تتلاشى بوتيرة لافتة.
العاصفة التي وَعَد ترامب بإطلاقها بعد إنهاء هدوئه الخادع لن تباغت أحداً من خصومه في غرب آسيا، ولن تثير إلاّ مزيداً من الغبار…
وزير سابق