«أيلا» رندلى جبّور… بين الحرّية والتحرّر
ناريمان منصور
تبدو قطوف الذاكرة للوهلة الأولى حصيلة تجارب مررنا بها في الحياة. غير أنّ الحالة تختلف إلى حدّ كبير عندما يكون رجع الذاكرة هو صدى مشاعر بذاتها، بآنيّتها حين تكوّنت للمرّة الأولى وعادت بنظرة وعي وحنين إلى الخلف، لكأنّ الحياة كلّها تُختصر في ومضات سريعة تحمل في طاقتها زخماً متسلسلاً منّا… بكلّ كينونتنا.
هذا ما حقّقته رواية «أيلا» التي قدّمتها لنا الزميلة الإعلامية، وعضو المكتب السياسي في التيّار الوطني الحرّ رندلى جبّور، بسردٍ سريع، ويتسارع أكثر كلّما أوغلنا شوطاً بعيداً في تتابع الأحداث التي أخذت لنفسها محاور رئيسة، هي مفاصل حياة، بل زوايا ارتكاز حياة «أيلا»، لتكون زوايا ارتكاز بناء الرواية نفسها.
تطرح رندلى قضايا إشكالية عميقة ذات منحى نفسي، منها الحب التملّكي في التربية الذي مارسه والدا «أيلا» وتحديداً والدها، ومنها الحالة المعاكسة، أي الإهمال في التربية الذي تعرّض له «رشيد» من قِبل أبيه، ما جعله ينساق تحت وطأة حاجة تعويضيّة بحته تجسّدت في المثلية الجنسية. مع هذا، قدّمت لنا الكاتبة البدائل كحلول، هي في واقعها تتناسب مع حالة كلّ شخصية. لتأتينا الأحداث بـ«تغطيتها» النفسية بصيغة وجدانية عالية، وكأنّها تريد أن تعلّمنا الدروس من خلال آلام شخصيّاتها، بزخم سرديّ سريع، ينعكس من خلال جملتها السريعة سهلة التركيب يسيرة الوصول، ممتنعة على الرّفد بالمغاير فلا يضيع الغرض.
قد نأخذ على الكاتبة ما يصلنا على أنّ أحداث روايتها محضّرة سلفاً، رغم أنّ كلّ قارئ سيلمس، وعن طريق الإسقاط على ذاته، أنّها تتحدّث عنه ويعنيه شخصياً ما تقوله، رغم اختلاف المعطيات، ما يوضح أنّ القضايا التي طرحتها رندلى تتجاوز شخوص روايتها إلى البعد الإنساني العام، مع تفصيل واضح يميّز بيئة لبنان «الحداثويّة» وما يطرأ عليها من مستجدّات.
كما بدا واضحاً، بقوّة، العنصر الديني خلال الرواية كلّها، وهذا لم يأتِ وليد حاجة الكاتبة لطرح قضايا دينية بعينها، بل ليعكس حجم تداول المجتمع الذي قدّمته الرواية لهذا الأمر كحاجة له هو بذاته، وكصيغة تأخذ بعدها الإنساني الشامل، فنجدها تحمل رسالتها الإنسانية عبر الكنيسة إلى جنوب أفريقيا، الأمر الذي يطرح التساؤل الهام: ماذا عن دور السلطات المسؤولة، وأين هي؟ ومن يحاكم هذه السلطات على تقصيرها، إنْ في لبنان أو أيّ مكان آخر، حتى نجد المؤسّسة الدينية هي التي تتكفّل بالكثير من المتطلّبات كتعويض لتقصير المسؤولين الفعليين عنها!
هذا الأمر سيقودنا للنظر إلى موضوع الحراك ضدّ الفساد الذي تُفاجئنا به الكاتبة، من حيث اندفاع «أيلا» للمشاركة فيه ومعها «رشيد» الذي أصبح خطيبها، متسبّباً له هذا الأمر بحادثة قضت على مستقبل علاقته مع «أيلا» ومستقبل تواجده كلّه في لبنان! مفضّلاً حريّته هرباً من سجن رومية على الصبر والانتظار ليمضي حياته مع من أحبّ!
أمر آخر له من الأهميّة الكثير، والذي طرحته الكاتبة بشكل ذكيّ للغاية، قد يفكّر فيه القارئ، وقد يؤثّر فيه من حيث لا يعلم، وهو موضوع القبول الاجتماعي لحالة المثليّة الجنسيّة في مجتمع ينظر إليه كشذوذ جنسي، انحراف أخلاقي أو حالة غير طبيعية لا تتماشى مع بديهيات التربية المجتمعية في مشرقنا. المثير في الأمر، كيفيّة تعاطي «أيلا» مع هذه الحالة، بشكل علميّ إنساني «ديني» واعٍ، وهي التي أوشكت أن تدخل في عالم النذر الأبديّ لحياتها كراهبة.
قبول «آيلا» «رشيد» كحبيب وزوج، رغم ما مرّ به من تجربة جنسية، يقدّم لنا وعياً معيّناً لكيفيّة النظر إلى هذه الحالات، هي تنجح إذا عولجت بالشكل الصحيح. الحالة المرتبطة التي تثير التساؤل، هو تحوّل «عامر» حبيب رشيد إلى الرهبنة!
تساؤلات مهمّة تتركها عندنا الرواية، رغم نفحاتها الوجدانية العالية، ورغم غرابة أحداثها في مواضع كثيرة.