إضاءة مقاعد شاغرة لعابري الفرح!

فيينا ـ طلال مرتضى

وأنت تعبر «Mariahifer Strasse»، وعلى غير قصد، قد ترتطم كلّك بجمع غفير من عابري المكان. لا تجزع، سوف يبادر من ارتطمت به أولاً بالكلام: «لا مشكلة». وذلك قبل أن تبادر أنت إلى الاعتذار منه.

ربما في الحكاية ضرب مبالغة مقصودة، لكن كن متيقناً أن هذا ما سيحصل! لا لشيء، فقط لأن من ارتطمت به يعرف أنك كنت تسير على هديك، وقت كانت عيناك منشغلتين مثله بسبر معالم الشارع العريق.

في أوروبا كلها، ثمة شوارع معدودة على الأصابع لا تنام، ومنها «Mariahilfer» الفييناوي. بالتأكيد ليس الأمر بجديد علينا نحن المشرقيين، ففي بلادنا أيضاً شوارع لا تعرف الهجعة، مثل شوارع دمشق وبيروت.

عطفاً على مطلع المقال، فإنني لم أرد منه بتاتاً، لفت الانتباه إلى أهمية الشارع المذكور، فهو غنيّ عن التعريف، وجموع الغرباء تؤمّه بين الفينة والفينة أفوجاً أفواجاً.

في شارع «ماريا هيلفر» تسمع على غير إنصات كل لغات الأرض وألسنتها، من الطبيعي أن تنفرج أساريرك حين تكتشف أنّ الحشد الذي ارتطمت به تواً قد صار غفيراً بشكل عفوي، مثل أيّ حشد تكتظ به شوارع مدننا العربية وقت وقوع حادث ما، أو مثل مشاجرة بين شخصين قد تحوّلت بقدرة فاعل إلى معركة طاحنة بعدما وصلت وفود المؤازرة لكلّ منهما! وقتئذٍ، عنوة سوف تُغتصَب منك أذناك، ثم يدلق فيهما من الألفاظ ما يسرّ الخاطر ويهزّ البدن!

تماماً هذا ما يحصل يومياً في شوارع فيينا، مع فارق بسيط بالمقارنة ما بين شوارعنا العربية وشارع هنا.

الآن، وبعد أن صحوت من غيبوبتي وتنبهت لنوبة التصفيق الحار، انزويت جانباً لأجلس على مقعد ـ وضعَتْه بلدية فيينا ـ مخصّص لكبار السنّ الذين يعبرون المكان.

نعم، توّاً كبرت ألف سنة، وتركتها ورائي بعد أن ملأتُ حواسي كلّها ممّا تُرك من إرث ربابنة الموسيقى الكلاسيكية، أمثال موزارت ولورين مازيل وزوبين مهتا وكلوديو أبادو.

أقول: ذاتها البلدية التي وضعت على بُعد مسافات متقاربة مقاعد يستريح فوقها كبار السنّ على الرصيف، أيضاً تركت قرب تلك المقاعد جهاز بيانو مخصّصاً للعوام، كي يستعمله من يملك مَلَكة العزف!

لست أقارن الآن، ولكنّني أعتقد لو أنّ بلدية ما في مدننا التي نعتزّ بعراقتها كدمشق أو بيروت، وضعت جهازاً موسيقياً في شارع ما، ربما لن نجد من يجرؤ على العزف عليه، ومن الطبيعي أن تتناهى إلى مسمعه كلمات لم يكن ليريد سماعها من عابر سبيل ما: «شو هالجنون؟!».

هذا من ناحية، أما من الناحية الثانية، وكي لا ألقي ظلال المقال على المقصّرين من رعاة مدننا العظيمة، ومن باب الإنصاف أقول: لو تُرك جهاز بيانو في أحد شوارعنا، ستصاب بالفجيعة حين يأتي شخص ما ويقوم بتخريبه، هذا إذا لم تجد أكياس القمامة قد غطّته على أمل أن يراها عمّال النظافة!

وهنا داهمني السؤال: كيف نصنع الإنسان؟

هذا ما وددت الوصول إليه في نهاية المطاف، من دون حصولي على جواب مقنع، بماهية السؤال، من يصنع من، هل هو دور الحكومات في بناء الأجيال؟ أم دور الشعوب الذي يساهم في تقويم الحكومات؟ أم هما خطّان متكاملان من حيث تبادل الأدوار، كما في فيينا؟ وهو أنّ البلدية ـ في الحيّز الضيّق ـ معنيّة بالمساهمة في خلق أمرٍ يجعل مواطنها قريباً منها من حيث دفعه للمشاركة الإرادية في رفع الحالة الثقافية، وفي الوقت ذاته تجد أن المواطن معنيّ أيضاً في حماية تلك الممتلكات مثل الأجهزة الموسيقية أو أجهزة الرياضات المجانية المخصّصة للعوام.

إضافة إلى ذلك، قد يستغرب أحدنا حين يصادف في الشارع ذاته عازفاً موسيقياً عالمياً، ربما تعرّفنا إليه عبر الشاشات، يقوم بالعزف في الشارع ويضع أمامه وعاء صغيراً يجمع فيه ما يتركه العابرون من «الفكّة» لقاء عزفه لهم، ليُصار إلى التبرّع بتلك المبالغ الصغيرة لصالح مستشفى ما أو لمجال خيريّ.

وقد يتساءل الآن أحدهم، بماذا تساهم تلك «الفكّة»؟ مثلاً لمستشفى سرطان الأطفال أو غيره؟!

أجزم بأن السؤال أتى موضوعياً تماماً، لكنه في الوقت ذاته هو ليس إلا حالة تحفيز للعطاء والمشاركة حتى لو كانت عينيّة. أو لنقل بأنه دعم معنويّ شكليّ. فلا ضير وقتذاك لو وضعت في الوعاء بعض «الفكّة» كما حصل معي عندما أتممت الأمر بالثناء على العازفة الجميلة ببضع كلمات ألمانية «مكسّرة». ربما لم تفهم معناها، لكنني أشي بأن الكلمات وصلتها بعدما طلبت منها الإذن لالتقاط صورة لها مع البيانو. وقتئذٍ اعتذرت بلباقة قائلة: «أنا هنا لأجل العزف، لا لأجل التصوير».

لكنها رضخت للأمر بعد أصراري على ذلك ومعرفتها بي بأنني أمتهن كار الكتابة. وهذا ما جعلني أقتنص فرصة اللحظة كي أمرّر ـ من باب الفضول ـ سؤالي: «كثيراً ما أجدك تعزفين في الشارع. لديك جمهور غفير وعابر طريق بالتأكيد. كم من المال تحصّلين يومياً مقابل العزف؟

بعفوية مفرطة ردّت: الكثير… الكثير… أكثر ممّا تعتقد. تستطيع الآن عدّها ـ أي النقود ـ على وجوه المارّة. اُنظر كم هم سعداء. هذا ما أحصل عليه!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى