«داعش» و«النصرة» جغرافيا الحدود لا ديمغرافيا الطوائف

حسام عيسى

بعد أربع سنوات على بدء حروب المنطقة وتبدّل مظاهرها وواجهاتها وعناوينها، تثبت حقائق من نوع، أنّ إسقاط حسني مبارك وزين العابدين بن علي وعلي عبدالله صالح ومعمر القذافي لم يكن هدفاً بذاته، إلا لفتح الطريق لتغيير كبير، والطريق لم يكن مطلوبا أن يُفتح حصراً لـ«الإخوان المسلمين» كما بدا من النسخة الأولى من الربيع العربي، إلا بمقدار أهليتهم لمواصلة المشوار في سورية، كما يبدو أنّ تدمير الجيوش وإضعافها واستنزافها، خصوصاً في مصر وسورية والعراق تشكل هدفاً مستمراً مع تغيّر المراحل، وأنّ وحدة الكيانات الوطنية للدول، ومركزية مؤسساتها على الجغرافيا المتعارف عليها وحدودها صارت موضع شكّ كبير، وأنّ انفلات العصبيات المناطقية والعرقية والطائفية والمذهبية سلاح دمار شامل لا يتوقف عن التنقل من خراب إلى خراب.

يبدو في المقابل أنّ الثابت الرئيسي هو أنّ «إسرائيل» التي تشكل القوة الرئيسية الخاسرة خلال السنوات العشر الأولى من القرن الواحد والعشرين لا تملك مقوّمات التحوّل إلى رابح، بدليل الفشل في استعادة قوة الردع كما أظهرت حرب غزة الأخيرة، لكنها تمكنت من الربح بتوازن الخسائر والإنهاك في معسكر خصومها ودفعهم للإنشغال عنها.

سادت مع هذه الحروب وتبدّلات عناوينها ومرجعياتها، فرضيات عدة، كان أوزنها وأبرزها أنّ واشنطن التي تشكل مرجعية الحلف الذي يتولى إدارة هذه الحروب وهندستها وتغيير عناوينها، ستعمل ما لم تنجح في السيطرة على صناعة القرارات الكبرى في المنطقة عبر الاستيلاء على مركز صناعة القرار في الدول المستقلة عنها، وخصوصاً سورية، ستعمد إلى تقسميها وتفتيت المنطقة إلى كيانات طائفية وعرقية ومذهبية تمنح «شرعية اجتماعية وثقافية وتاريخية لإسرائيل كدولة يهودية يجب أن تبقى قوية بين غابة من الوحوش»، وتسهّل على واشنطن إدارة حروب هذه الكيانات المتناحرة في المنطقة، واستنزاف ثرواتها بالتسلّح وشعوبها بالدماء ونخبها بالتخلف والعصبيات.

يثبت لدى وضع هذه الفرضية على المحك أنّ التقسيم الذي يملك من العراق فرصة التوسّع بفوالقه نحو سائر كيانات المنطقة، وهي الفرصة التي أطلت مع ظهور إمارة «داعش»، سيؤدّي وفقاً إلى هوية الكيانات واتصال الجغرافيا المباشرة إلى نشوء كيان شيعي في السعودية تختزن فيه قيمتا السعودية الاستراتيجيتان وهما ساحل الخليج والنفط، كما سيؤدّي إلى ولادة كيان كردي في تركيا تنتهي معه الدولة التركية القوية كعضو في الأطلسي، بينما سينتج عن تقسيم تركيا وسورية وواقع لبنان نشوء كيانات يتقاسمها الشيعة والعلويون تمسك بساحل البحر المتوسط من الناقورة إلى حدود اليونان، وفي المقابل سيكون بمقدور «داعش» وشبيهاتها التمدّد للإمساك بمناطق السنة خصوصاً في السعودية، لكن بلا نفط ومال، ومعلوم أنّ جمع التطرف والفقر ولادة الإرهاب الخارج عن السيطرة.

تمّ فحص هذا الخيار ملياً في قمة حلف الأطلسي في فرانكفورت عام 2012 بعد عرضه من صاحبه المؤرّخ الأميركي برنارد لويس، العضو وقتها في لجنة الحكماء التي شكلها الحلف قبل عام برئاسة مادلين أولبرايت، وبسبب ما يترتب من خسائر عليه بجعل إيران تمسك بدويلات تابعة لها طائفياً على ساحلي الخليج والمتوسط تمسك بمقدرات المنطقة، صرف النظر عن الخريطة التي قدمها تحت عنوان «استقرار الشرق الأوسط يبدأ باعتماد حدود الديمغرافيا لا خريطة سايكس بيكو لدول المنطقة» والمقصود بالديمغرافيا حدود الطوائف والأعراق والقوميات والمذاهب.

الواضح اليوم ومع تقدم مشروع «داعش» والرعاية المزدوجة التي يدير الغرب وتركيا علاقتهما به، من حرب لها وظائف منع التمدّد، وإمداد له وظيفة منع الموت، أنّ بديلاً غير العودة للتفاوض مع حلف المقاومة للانخراط معه في صياغة نظام إقليمي جديد يضمن الاستقرار، هو الذي جرى اعتماده بدور تركي بارز، والخيار يقوم على نصف تفتيت، وهو تفكيك الكيانات لحساب جزر تزرع في المناطق الحدودية التي تشكل مفاصل الوصل والقطع بينها بالاعتماد على الجغرافيا الطبيعية، كحال انتشار «داعش» بين حدود سورية والعراق وحدودهما مع تركيا فتصير دويلة المثلث الحدودي، ومثلها على الحدود الأردنية السورية الفلسطينية وحدود سورية مع فلسطين المحتلة ودويلة «النصرة»، ومثلهما دويلة جرود عرسال والقلمون وسلسلة الجبال الشرقية بين لبنان وسورية.

لعبة جغرافيا لا الديمغرافيا وحدها تمنع تقسيم السعودية وتركيا وتسمح بتقطيع أوصال قوى حلف المقاومة وهي لعبة لا تسقطها إلا الحرب.

«توب نيوز»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى