ما أكثر الإعمار وأقلّ المعمار!
ما أكثر الإعمار وأقلّ المعمار!
احتفاءً بالمهمّ الأهمّ، بالنوع، لا بالحجم والكمّ…
من المفيد في هذا الإطار، إطار ما يسمّى اصطلاحاً «إعادة الإعمار»، بل من الحاسم والضروريّ أن نعي ونستذكر على هذا الصعيد وقبل فوات الأوان بعض البديهيّات في الفارق، وهو شتّان، بين «العمارة» ومجرّد البناء أو التشييد، وبين «الحديث» حقّاً والجديد، وبين التنمية أو النماء والإنماء، ومجرّد النموّ في البناء وفي سواه من العناوين والأشياء ، وبين الترقّي أو الارتقاء، نماءً وانتماء، ومجرّد التكاثر في البناء وفي الأبناء ، وكذلك بين السرعة والتسرّع، وبين التقدّم الحقّ وشبه التقدّم أو شُبهته والاشتباه فيه والتشبّه به …
ويجدر بنا أن نتذكّر أنّ الأخطاء في العمارة والعمران بالتحديد هي أكثر تكلفة ماديّة ومعنويّة وإنسانيّة منها في سواها من المجالات. وأنّها متى ارتكبت وما أكثر الارتكابات لا يمكن لها أن تُمحى بالممحاة كما هي أخطاء الكتابة مثلاً. وأنّه يمكن النظر إلى بعض الدمار في هذا الإطار تجاوزاً كفعلٍ بنّاء، وبالتالي محاولة استثمار نتائجه إيجاباً في تصحيح المسار، مسار التخمة في فائض الكمّ مع الشحّ والعَوَز الكبير، منقطع النظير، في النوع والنوعيّة، إذ لطالما كان يقاس التقدّم الحقيقيّ في هذا المضمار بالسويّة النوعيّة والكيفيّة لا الكميّة، وكذلك بدرجة الاتقان والأناة، لا بسرعة الإنجاز على أهميّتها ، وبعمق ونجاعة المنهجيّات والمقاربات الرؤيوية والاستراتيجيّة الشاملة لا التكتكيّة الموضعيّة والترقيعيّة منها.
وبالتالي، وجب التريّث واقتضى التأنّي وعدم الاستعجال، ووجب التروّي وعدم الارتجال، وكان لا بدّ من كبح جماح هذا النهم الذي لا يرتوي من تفاهة وتهافت التهافت المعماريّ والعمراني الذي ينحو جامحاً وجامحاً في مجتمعاتنا نحو الحجم ارتفاعاً، ونحو الكمّ اتّساعاً وابتلاعاً واقتلاعاً واتّجاراً واستعماراً…
لا بدّ من وضع حدٍّ لداء ووباء عشواء وشعبويّة البناء وبالذات على أطراف المدن ومناطق الريف الطبيعي الجميل، وللجائحة العمرانية التي قد تجتاح ما تبقّى من فضاء ومن ذائقة وحسٍّ مدنيّ ومدينيّ على حدّ سواء، وتنتهك بِاسم التقدّم ما بقي من عذريّة الأخضر وأزرق السماء.
يجدر بنا في هذا المقام أن نتعلّم من أخطاء الماضي والحاضر وهي ماثلة، وألّا نكرّرها وما أكثرها، أو أن نردفها بأخطاء مماثلة وقاتلة. يجدر بنا أن نتعلّم من تجارب الجوار في عمران ما بعد الحرب، ومن ثغراتها فلا نعيد إنتاجها. ويجدر باختصار، أن يرقى «بُناة» الديار إلى مصاف ورتبة «حُماة» الديار، وأن يكونوا من قماشتهم تميّزاً وعطاءً فيكون البناة من أهل الأناة، ومن الأباة، الثقاة، والتقاة في العلم والعمل على حدّ سواء، وممّن حاز على الصدقيّة الأخلاقيّة والكفاءة الأكاديمية الحقّة بعيداً عن خواء الألقاب والجدارة المهنيّة والفنيّة والوطنيّة بمعنى الموقف …
يجدر بنا ذلك، رعيّةً ورُعاةً من باب الوفاء للفنّ وللوطن الذي نحبّ، وطالما أنّنا نريد تحويل الغصّة إلى فرصة، والمِحنة إلى مِنحة، والنقمة إلى نِعمة، والضارّة إلى نافعة بالمعنى الجميل والنبيل والموت إلى حياة وازدهار، يجدر بنا ذلك طالما أننا نعي حجم التضحيات وأغلاها دماء الأبرياء والأبرار علاوة على حجم الدمار وطالما أنه ليس منّا وبيننا من يريد للدمار أن يتكرّر، فلنتذكّر ختاماً، كم من بناء تدمّر وهو لا يستحقّ إعادة البناء، وكم من بناء أولى به يتدمّر، وكم من مبنى بلا معنى وكم من الكمّ… وبالفعل، ما أكثر البناء والإعمار وما أقلّ المعمار!