اعتباطيّة العلامة وإشكاليّة الدلالة
رحاب القاضي
تتكوّن العلامة اللسانية من دالّ ومدلول، يرتبط كلّ منهما بالآخر. إذ لا دالّ بلا مدلول ولا مدلول بلا دالّ. أما العلاقة التي تربط الدالّ بالمدلول فهي علاقة اعتباطية. أي أنه ليس ثمة أيّ علاقة طبيعية بينهما كما كان وما يزال يتوهّم بعض الناس من أن هناك استطالة ومدّاً في صوت الجندب فقالوا «صرّ».
هذا الرأي يدلّ على محاكاة الألفاظ لمعانيها، وهذا لا يخرج عن دوره صدفة لا علاقة لها بالعلاقة بين الدال والمدلول، وعلى هذا إذا اعتمدنا الألفاظ التي تحاكي معانيها اعتباطية، فماذا عن باقي الألفاظ؟
وللإجابة على هذا السؤال، سنتناول بدايةً اللغة والعلامة:
لكي تؤدّي اللغة وظيفتها بشكل منظّم، لا بدّ من اعتمادها على علم العلامات. فلا نشير إلى الكرسيّ الذي يدلّ على مكان الجلوس، ونقصد به الطاولة مثلاً. ذلك لأن كلمة كرسيّ الدالّ، فيها مطابق لمفهوم المدلول. وهذا لا يعني تطابق العلاقة بين الدالّ والمدلول وطبيعة العلاقة بينهما، إنما هي علاقة منطقية عقلية اصطلح عليها الناس لتسهيل عملية التواصل. يؤكد على هذا: سلسلة الأصوات في الكلمة لا ترتبط مع مدلول الكلمة. مثلا: معنى لفظ الأخت «soeur» ليس مرتبطاً بأيّ علاقة قد نتخيّلها داخل سلسلة أصوات لفظ الأخت «s.o.r». وما هذه الأصوات التي تستخدمها الكلمة إلا مطيّة تستخدمها اللغة لتؤدّي غايتها في تكوين صورة سمعية دالّ وتصوير ذهنيّ مدلول. لهذا قلنا بارتباط العلاقة بين الدالّ كلمة كرسيّ ومدلولها كمفهوم لا كعلاقة طبيعية.
عملية نظم الحروف: اعتماد اللغة على حروف لا يحتّم تطابق معنى الحروف مع معنى الكلمة. وهذا ما يشير إليه الجرجاني في قوله: نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط لا نظمها بمقتضى عن معنى… فلو أنّ واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدّي إلى فساد.
انقطاع الاتصال بين لغتين مختلفتين: وهو أبسط برهان على اعتباطية العلامة، إذ إنّ انقطاع الاتصال بين شخصين من لغتين مختلفتين يدلّل على عدم الترابط بين الصوت وما يدلّ عليه كما ذكرنا. وهذا ينطبق على اللغات كافة. فكيف نسلّم بما ادّعى به البعض عندما توهّموا بوجود علاقة طبيعية بين الألفاظ ومدلولها؟
الدالّ والمدلول علاقة بالمصادفة: تطبع عملية الممارسة اليومية للكلمة في ذهن الإنسان معنى يتناوله في عملية الكلام يُشعره بعلاقة وهمية بين ما يقوله وما يشير إليه. وفي الواقع، لا علاقة إلا من قبيل المصادفة. فلو استخدم في قوله منذ البداية «فحيح الشجر» بدلاً من «حفيف الشجر» لما شعرنا بالتباس المعنى في الذهن، ذلك لأن الأصوات التي تحملها الكلمة لا يمكن أن ترتبط مع دلالة الكلمة ذاتياً أي في معنى الأحرف، إنما مع دلالة الكلمة الممثلة بالمرجع والمعترف عليها من قبل الجماعة. إذ لكل جماعة لهجتها المتفرّعة عن لغتها، والمتضمّنة دلالات ومدلولات خاصّة بها.
فإذا استخدم القرويّ «قلشين»، المدني لن يفهمه، لأن المعنى المتعارف عليه في هذه الجماعة «جراب».
إذاً، لكلّ لغة ألفاظها الخاصة المتطوّرة مع الزمن والمرتبطة بالمناخ الثقافي والاجتماعي وبعلاقاتها الاصطلاحية والعرفية. فالدلالة لا تكون دلالة إلا بانتسابها إلى علامة توحي بها، والعلامة لا تكون علامة إلّا إذا أوحت إلى شيء ما، وهذه العلامة التي تربط العلامة بدلالتها هي علاقة اصطلاح وعرف. في تأكيدنا اعتباطية العلامة اللسانية، لا يجدر بنا أن نبتعد عن مفهوم العلامة فنفصل بين الدالّ والمدلول، متوهّمين أن الفصل هو الاعتباط، بل الاعتباط ناتج عن ترابط أجزاء العلامة. فلو لم يكن هناك دالّ على شيء ما ومدلول عليه، لما كانت اعتباطية العلامة مثلاً: إذا أرسل المتكلّم رسالة تتضمّن مفردة «أخ»، لن يشعر السامع باعتباطيتها، إن لم يتبادر إلى ذهنه مباشرة الدلالة الأخ بمعنى الوجع أو الألم.
إذاً، نقول باعتباطية العلامة اللسانية وبعلاقة اللفظ والمعنى. فكلّ منهما يحتاج إلى الآخر لتكوين العلامة اللسانية، والتي يتم الاتفاق عليها اصطلاحاً من قبل الجماعة.
كاتبة سوريّة